شركاء مائدة الدم

افتتاحية

كلما لاح في الأفق ضوء خافت يبشر بانطفاء نيران الحرب، خرج من بين الركام أولئك الذين لا يأنسون إلا في العتمة، ولا يعيشون إلا على رائحة البارود. هم شركاء مائدة الدم، الذين لا يملكون في سجل حياتهم سوى صناعة الخراب وإطالة أمد الجراح، يلوكون شعارات الوطنية والدين بلسانٍ ملوثٍ بالدم، ويستميتون في الدفاع عن حربٍ فقدت كل مبرراتها، إلا مصلحتهم الشخصية في استمرارها.

لقد هُزمت الحرب شعبيًا، وانهارت سردياتها القديمة أمام وعيٍ جديدٍ تولد من رحم الألم. فحين حاول دعاة الفتنة أن يعيدوا تسيير مواكب الجهاد والخوف، وجدوا الناس صامتين لا مبالين، لأن القلوب امتلأت بالخذلان من كل وعدٍ كاذب، ولأن الموت لم يترك بيتًا إلا وطرق بابه. سقطت دعايتهم القائمة على التخويف من “الآخر”، والتخوين لكل صوتٍ يدعو إلى السلام، وصار الناس يرونهم كما هم: تجار دمٍ يخافون أن تنتهي الحرب لأن نهايتها تعني نهاية امتيازاتهم، ونهاية قدرتهم على التحكم في مصائر الآخرين.

لقد سعى هؤلاء لإجهاض كل مبادرة سلام، سواء جاءت من الداخل أو من الخارج. كل حديثٍ عن تسوية أو هدنة يثير جنونهم، لأنهم يدركون أن السلام سيفضح خواءهم، وسيكشف أن “بطولاتهم” لم تكن سوى غطاءٍ لأطماعٍ صغيرةٍ في المال والسلطة والنفوذ. يلوذون بخطابٍ عنيفٍ مسعور، يتحدث عن “المعركة المصيرية” و”هيبة الدولة” و”الكرامة الوطنية”، بينما هم في الحقيقة آخر من يعرف معنى الكرامة.

وحين ضاقت عليهم السبل، حاولوا الاستثمار في دماء أهل الفاشر، ظانين أن مجزرة جديدة يمكن أن تعيد الناس إلى مربع الحرب الأول، لكنهم فوجئوا بعقلانية أهل دارفور ووعيهم العميق. أهل دارفور، الذين ذاقوا مرارات الحرب لعقود، لم يعودوا يحتاجون إلى من يذكّرهم بثمن الدم. لقد رأوا كل شيء: المدن التي أُحرقت، القرى التي مُسحت، الأطفال الذين صاروا يتامى قبل أن يتعلموا النطق، والأمهات اللواتي دفنّ أبناءهن تحت الرماد.

وحين جاءت الدعوة لاستثمار مأساتهم سياسيًا، رفضوها بصمتٍ نبيل، كأنهم يقولون للعالم: كفى، هذه الحرب لن تلد إلا الدمار.

لقد حاول دعاة الحرب أن يثيروا النعرات القبلية والجهوية، وأن يصنعوا من الحزن وقودًا للثأر، لكنهم هُزموا مجددًا. لأن الناس، ببساطة، لم يعودوا كما كانوا. لم تعد الكلمة المسمومة تنطلي على جيلٍ رأى الخراب بعينه. باتت شعارات “التعبئة” و”الجهاد” و”المعركة الكبرى” تُستقبل بالسخرية المريرة، لأن التجربة وحدها علمت الناس أن هذه اللغة لا تعني سوى مزيدًا من القبور.

إن شركاء مائدة الدم لا يفهمون أن التاريخ تجاوزهم. هم أسرى وهمهم بأن بإمكانهم إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، إلى يومٍ كان فيه الناس يصفقون لهم خوفًا أو جهلًا. لكن الوعي الشعبي اليوم أقوى من أن يُقاد مرة أخرى نحو المقصلة. الناس يريدون أن يعيشوا، أن يزرعوا، أن يرمموا ما تهدم، أن يسمعوا أصوات أطفالهم لا صراخ الطائرات.

ورغم أنهم يدركون أن الحرب لم تعد تجد صدى في الشارع، إلا أنهم يستعدون لفعلٍ متهورٍ جديد، ليفرضوا على الواقع ما عجزوا عن فرضه بالإقناع. قد يشعلون فتنة هنا، أو يثيرون نزاعًا هناك، أو يختلقون حادثة دامية تفتح أبواب الدم من جديد. لأنهم لا يعرفون غير هذه اللغة، ولا يجيدون غير هذا النوع من “الانتصارات” الزائفة التي تقوم على أنقاض البشر.

لكن البلاد تغيّرت. والناس صاروا يرون المشهد من ارتفاعٍ أعلى. لم يعد القتل يقنع أحدًا، ولم يعد “النصر” الذي يمر عبر المقابر نصرًا في نظر أحد. الشعب السوداني، الذي وُصف طويلًا بالصبر، لم يعد صبره خضوعًا، بل صار وعيًا. هذا الشعب الذي فقد أبناءه في الحروب العبثية، لم يعد يرفع الرايات خلف أحد، بل صار يسائل كل من يدعو إلى الدم: من المستفيد؟ ولماذا؟

لقد آن أوان أن يُسمى هؤلاء بأسمائهم: شركاء مائدة الدم، لا حماة وطن ولا دعاة كرامة. يعيشون من استمرار النار، ويتنفسون من رماد البيوت المهدمة، لأن الحرب بالنسبة لهم ليست مأساة، بل مورد رزق.

أما الوطن، فله شركاء آخرون – أولئك الذين ما يزالون يؤمنون بالسلام رغم خيباتهم، الذين يحلمون بسودانٍ لا تحكمه المليشيات ولا الأوهام، بل العدالة والعقل والضمير.

نعم، لقد انتهى زمن الحرب كحالةٍ مقبولةٍ أو حتى محتملة. ومن يصرّ اليوم على إدامتها، يضع نفسه في خانة المجرمين لا الوطنيين. لأن الوطن لا يُبنى على الخنادق، بل على المصالحة، ولا يُحرس بالبندقية، بل بالثقة في الناس.

وفي النهاية، مهما علا صراخ دعاة الحرب، سيغلبهم صمت الناس الرافضين للدم. سيهزمهم الإصرار الهادئ على الحياة، وسيسقطون كما سقط من قبلهم كل الذين ظنوا أن الخراب يمكن أن يكون قدرًا دائمًا.

السودان سينهض، لا لأنهم يريدون ذلك، بل رغمًا عنهم — لأن هذه الأرض لا تعرف إلا طريق البقاء، مهما اشتدت عليها محاولات شركاء مائدة الدم.

Exit mobile version