السودان.. حرب الأطراف الأربعة 

بقلم : د. أحمد حسن الفانابي

بعد عامين ونصف العام من اندلاع الحرب في السودان، ما تزال نيرانها مشتعلة، تحصد الأرواح وتدمّر المدن دون أفق واضح للحل. ثلاث جولات تفاوضية فشلت في تحقيق وقف لإطلاق النار أو حتى هدنة إنسانية قصيرة، وهو ما يعكس عمق الأزمة وتعقيد المشهد، ويؤكد أن أجندة المفاوضات لم تُلبِّ طموحات الأطراف المتحاربة.

رغم أن الحرب تُقدَّم إعلامياً بوصفها صراعاً بين طرفين، فإن الواقع الميداني والسياسي أكثر تشابكاً، إذ يشارك فيها فعلياً أربعة أطراف رئيسية، جميعها منحدرة من بنية نظام الإنقاذ السابق الذي أسّس لثقافة العنف والتمكين.

أول هذه الأطراف هي قوات الدعم السريع، التي تسعى إلى السيطرة على الحكم بدوافع اقتصادية واجتماعية ذات طابع قبلي. هذه القوات نشأت برعاية نظام البشير، كأسوأ خطيئة لنظام الإنقاذ الساقط، الذي شرعن وجودها وحوّلها إلى قوة نظامية بقيادة عائلة آل دقلو. ومنذ ذلك الحين، ارتبط اسمها بانتهاكات جسيمة تمثلت في القتل والنهب والاعتداءات ضد المدنيين.

تفتقر هذه القوات إلى رؤية سياسية متماسكة، فتارة ترفع شعار محاربة الإسلاميين، في حين أن مستشار قائدها أحد أبرز رموز النظام السابق، وتارة تتحدث عن الديمقراطية والحكم المدني بينما يعلن قائدها العسكري نفسه رئيساً لحكومة في مناطق نفوذه. هذا التناقض يعكس غياب المشروع السياسي الحقيقي لديها.

الطرف الثاني هو الجيش السوداني، الذي يعاني بدوره من اختراقٍ سياسي وأيديولوجي عميق. فقد وجدت بعض الأحزاب العقائدية – من الشيوعيين إلى البعثيين، وصولاً إلى الإسلاميين – موطئ قدم داخل المؤسسة العسكرية منذ تسعينيات القرن الماضي. وكان للإسلاميين النصيب الأكبر من النفوذ، إذ تحوّل الانتماء للتنظيم إلى شرط غير معلن لدخول الكلية الحربية وللترقي في الرتب.

أما القيادة الحالية، فهي امتداد لمدرسة الإنقاذ نفسها، تحمل طموحات شخصية في استعادة نفوذ النظام السابق بكل ما حوله من منظومة فاسدة، ولا تزال مرتبطة فكرياً وتنظيمياً بالحركة الإسلامية. وقد بدا ذلك واضحاً في فشل مفاوضات واشنطن غير المباشرة الأخيرة، حيث عجزت قيادة الجيش عن اتخاذ مواقف مستقلة بعيداً عن تأثير التيار الإسلامي.

الطرف الثالث يتمثل في الحركات المسلحة في دارفور، التي تنقسم إلى مجموعات متباينة من حيث الخلفية والمصالح. فبعضها كان جزءاً من النظام السابق، مثل حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، بينما نشأت أخرى بدعوى الدفاع عن حقوق سكان الإقليم. غير أن معظم هذه الحركات فقدت بوصلتها السياسية وتحولت إلى كيانات تبحث عن النفوذ والمكاسب المالية، ما جعلها أقرب إلى “أمراء حرب” منها إلى قوى ثورية تحمل مشروعاً وطنياً.

أما الطرف الرابع فهو التنظيم الإسلامي نفسه، الذي عاد إلى الساحة منذ بداية الحرب عبر كتائبه المسلحة المستقلة ومن خلال نفوذه داخل الأجهزة الأمنية. يسعى هذا التنظيم لاستعادة سلطته المفقودة عبر بوابة الحرب، ويعمل على إعادة إنتاج النظام القديم مستفيداً من حالة الانقسام والصراع بين بقية الأطراف.

هذا التشابك بين القوى الأربع يجعل الأزمة السودانية من أعقد الأزمات في المنطقة، إذ يتداخل فيها البعد السياسي مع القبلي والعقائدي. كما أن غياب القوى المدنية الفاعلة عن المشهد بعد انقلاب 2021 جعل الساحة خالية أمام القوى المسلحة لتتصارع دون ضابط وطني جامع.

الحديث عن تسوية سياسية شاملة أو انتقال ديمقراطي في ظل هذه المعادلة يبدو بعيد المنال. فطريق السودان نحو حكم مدني مستقر لا يزال طويلاً وشاقاً، وقد يشهد المزيد من الانقسامات الجغرافية والسياسية قبل أن يتشكل فيه مشروع وطني جامع.

في المحصلة، يمكن توصيف ما يجري بأنه حرب أهلية بين أمراء السلاح يسعون جميعاً للسيطرة على السلطة، يجمعهم إرث واحد هو إرث نظام الإنقاذ، الذي ما زالت ظلاله الثقيلة تحكم المشهد السوداني حتى اليوم.

 

Exit mobile version