
بقلم : رضوان بلال
بعد سقوط مدينة الفاشر، لم تعد المأساة محصورة في حدود دارفور، بل امتدت لتكشف عن عمق الأزمة الوطنية السودانية، وعن جوهر الصراع الذي تجاوز السياسة إلى مستوى الجريمة والإرهاب.
فما جرى هناك من قتلٍ وانتهاكاتٍ بحق المدنيين، سواء ثبتت جميع تفاصيله أم لا، يشكّل في جوهره عملاً إرهابيًا ممنهجًا، استخدم فيه الرعب أداةً للسيطرة ووسيلةً لفرض واقع جديد بقوة السلاح.
صحيح أن بعض المقاطع المصوّرة التي انتشرت عبر وسائل التواصل أثارت جدلاً واسعًا حول صدقيتها، وهناك من يؤكد أن جزءًا منها مصنّع ومفبرك، غير أن ذلك لا ينفي وقوع انتهاكات حقيقية أقرّ بها قائد قوات الدعم السريع نفسه في خطابه الأخير، معلنًا فتح تحقيقٍ ومحاسبة المسؤولين عنها. وهذه الاعترافات، إلى جانب سجلّ الجرائم المتكررة التي لازمت طرفي الصراع في حالات الإحلال والإبدال، تجعل من الصعب نفي جوهر الكارثة.
ومع ذلك، فإن الجريمة، على فداحتها، ليست أخطر ما في المشهد؛ بل الخطاب الذي رافقها.
فالمؤيدون للدعم السريع التفّوا حول تبريراتٍ واهية، تقارن بين ما فعله الدعم السريع وما ارتكبه الجيش وكتائبه الإرهابية من قبل، وكأنّ المأساة يمكن تبريرها بمأساةٍ أخرى، أو أن العدالة تتحقق بالانتقام. هذا المنطق الانفعالي لا يُنتج وعيًا، بل يكرّس ثقافة الثأر، ويغذّي صراع المظلوميات المتبادلة الذي يلتهم ما تبقّى من فكرة الوطن.
وفي الجهة المقابلة، يظهر مؤيدو الجيش من كيزان وبلابسة يتباكون على ما جرى في الفاشر، وكأنهم غرباء عن الكارثة. لكن الحقيقة أن هؤلاء هم من أشعلوا الحرب ورفضوا كل مبادرة لإيقافها، طمعًا في استعادة سلطتهم التي أطاح بها الشعب. بكاؤهم اليوم ليس سوى مناورة سياسية لتبييض ماضيهم، والدعوة للاستنفار ولحماية الأرض والعرض ومحاولةٍ للعودة تحت لافتة “الجيش والدولة”.
بهذا الواقع المأزوم، يتضح أن الحرب لم تعد بين الجيش والدعم السريع، بل بين مشروعين فاشلين:
الأول يسعى لإعادة إنتاج الدولة القديمة بأجهزتها القمعية وعقليتها الإقصائية، والثاني يحاول فرض واقعٍ جديدٍ بقوة السلاح والعصبية. وكلاهما لا يملك مشروعًا لبناء دولة حديثة تقوم على المواطنة والعدالة والحرية.
أما الخاسر الحقيقي، فهو المواطن السوداني الذي يُساق من مدينةٍ إلى أخرى بين نيران الطرفين، بينما تتآكل البلاد يومًا بعد يوم.
إن سقوط الفاشر يجب أن يُقرأ بوصفه منعطفًا سياسيًا حاسمًا في مسار الحرب؛ فهو كشف ضعف الخطابين معًا، وأظهر أن لا طرف من المتحاربين قادر على تحقيق نصرٍ حقيقي أو فرض استقرارٍ دائم. ما حدث ليس نصرًا لأحد، بل هزيمة جماعية للسودان كله.
وإذا لم يُفتح أفق جديد للعمل المدني والسياسي، فإنّ البلاد تتجه نحو مرحلة التشظي الكامل، فالحرب تتطور من صراعٍ على السلطة إلى صراعٍ على الجغرافيا والهوية والموارد، وتتشكّل مراكز نفوذ إقليمية تُضعف ما تبقّى من مؤسسات الدولة المركزية.
عندها لن يكون الحديث عن “السودان الواحد” إلا ذكرى مؤلمة من زمنٍ مضى.
ومع ذلك، يبقى الأمل ممكنًا، إن استطاع المدنيون وقوى التغيير الحقيقية بمساعدة (الرباعية) أن يلتقطوا الدرس القاسي من الفاشر، ويحوّلوه إلى نقطة انطلاقٍ تعزز جهود وقف الحرب، وإيصال المساعدات الإنسانية، وإقامة الدولة المدنية، وتحقيق العدالة والمحاسبة.