بقلم : عثمان يوسف خليل
الأم هي المدرسة الأولى، ومنها تعلمنا كل شيء. ولذلك سمّوا اللغة «الأم» – فانظر يا رعاك الله إلى عظمة أمك!
أما التربية، فهي موضوع آخر لو فتحنا بابه لتاه بنا في دهاليزه الغنية. ولعلّكم يا سادتي لاحظتم أن الدولة تسمّى «وزارة التربية والتعليم»، لا «التعليم والتربية»! فالتربية تسبق التعليم لأنها تُنشئ الأجيال على الخلق القويم.
وقديماً شدّ سمعنا قول الشاعر أحمد شوقي:
«إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا»
فانظروا يا سادتي إلى أخلاق الرجال تعرفوا أمهاتهم. ولأهلنا مثلٌ مشهور:
“كان داير تعرف فاطمة شوف أم حُمّد في السوق”
وفي ذلك دلالة على أن الأخلاق تورَّث، وأن معدن الناس يُعرف في المعاملات..
وصاحبكم تعلّم الفصاحة والبيان من أمٍّ ربت ورعت جيلاً بعد جيل، حتى امتد أثرها إلى أحفادها – رعاهم الله. كنت وأنا صبي الأقرب إليها، لأسباب تعرفها هي، فالأم كما أسلفنا ترضع أبناءها كرم الصفات، ولا تصدر عنها إلا التربية السليمة والتوجيه الحكيم. وهل سمعتم أمّاً تربي أبناءها على الرذيلة؟ وفي صغري لم أكن لهوفاً للمعرفة لكني كنت مستمعاً ومُخزِّنًا لاى معلومة أسمعها، وحين شببتُ وبدأت أعترك الحياة، خرجت تلك الخواطر والحِكم التي كانت ترقد في مكامن الذاكرة.
الوالدة – رحمها الله – عُرفت بين أهلها برجاحة العقل، وقول الحق، وإغاثة الملهوف.
أما الحكمة، وهي ضالة المؤمن، فقد حبَاها الله منها نصيبًا وافرًا؛ فكانت أمثالها تخرج في مواضعها كالسهم يصيب المعنى.
ذات مرة امتحنني “حمزة”، آخر من وقع منّا على هذه الأرض، في مثلٍ من أمثال الوالدة، فخذلته لأن العهد طال، وكان المثل الذي استشهد به من أقوال أمنا:
“ربنا يحفظ الهُولنا والهُول الناس” ومعناه ببساطة: ربنا يحفظ أولادنا وأولاد الناس.
والـ”هُوُل” لفظة دارجة تعني المِلك والحق.
وما يزال ناسنا يقولون في كلامهم هولِي حتى لصغارهم (الجنا ده هول منو) والحواشة دي هيلتي والبقر ده هولنا.. لله دَرُّكِ يا أمريوم بت بخيتة… لقد تركتِ لنا قاموسًا من الحِكم، وذاكرةً تفوح بالخير والحب والجمال. وذكرى تبرانا في كل حياتنا..
وهكذا يا سادتي تظل الأم هي الأصل، المنبع الذي لا يجف، والمحراب الذي تتخرج منه القلوب على طهرها والفكر على نوره.
هي أول من يخط الحرف في ذاكرة الحياة، وآخر من يغادر القلب مهما طال البعد أو تبدلت الأيام. فسلامٌ على كل أمٍّ غرست فينا الخير، وتركَت لنا أثرها كما تترك الريح الطيبة عبيرها في الدروب.
*المملكة المتحدة