هل تشكّل مأساة الفاشر مفتاحًا للمسار السياسي في السودان؟

بقلم : محمد الأمين عبد النبي

لعلّ الحدث الأبرز في تطورات الحرب في السودان عسكريًّا هي سقوط الفاشر في شمال دارفور، وقبلها مدينة بارا في شمال كردفان، فيما تمثّل الحدث السياسي الأبرز في بدء مفاوضات سرّية غير مباشرة بين الجيش وقوات الدعم السريع في واشنطن بهدف الوصول إلى اتفاق هدنة. أما إنسانيًّا، فقد دخلت البلاد في كارثة غير مسبوقة يعيشها السودانيون الذين يتعرّضون للقتل والتجويع والتهجير في ظلّ تصاعد خطاب الكراهية والعنصرية المقيتة.

تكمن خطورة هذه التطورات في انتقال الحرب إلى مرحلة جديدة من الصراع الإثني الذي يهدّد بتقسيم السودان، لكنها في الوقت ذاته تمثل فرصة لترجيح الحلّ السياسي التفاوضي باعتباره الوسيلة الأنجع للتخفيف من معاناة السودانيين، إذا ما استُشعرت المسؤولية الوطنية وتوفّرت الإرادة السياسية لمعالجة جذور الأزمة بكل أبعادها التاريخية والمعاصرة، ومجابهة تداعياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، والتحكم في مآلات الانزلاق نحو حرب شاملة قد تتحوّل إلى معادلة صفرية، في ظلّ سعي كل طرف إلى تحقيق نصر عسكري بأي ثمن. ومن شأن ذلك أن يجعل وقف إطلاق النار عقدة مفصلية تُستخدم لتصدير الأزمة والقفز على الواقع عبر ارتكاب حماقات لا تؤدي إلا إلى مزيد من النزيف.

هناك جهود حثيثة تبذلها الرباعية لتسريع المسار السياسي تصطدم بالتعنّت والمراوغة والمماطلة، ولكن في نهاية المطاف سوف تفضي إلى اتفاق حسب تأكيد الرباعية. كما ينتظم في المقابل حراك مدني متنامٍ يهدف إلى إنهاء حالة الانقسام السياسي لصالح توحيد الصوت المدني، وهو أمر تفرضه المتغيرات على الأرض، وتبرز أهميته في تفعيل القوى المدنية السودانية لأوراق ضغطها لترجيح كفة التفاوض وصولًا إلى حل سياسي يُعبّر عن تطلعات الشعب السوداني.

إنّ خطورة تطورات الأوضاع لا تقتصر على تصعيد المعارك بين الجيش والدعم السريع، بل تتعداها إلى مسار سياسي لا يقل أهمية، يسير في اتجاهين متوازيين لا يتعارضان: الأول، هو التفاوض بين طرفي الحرب على أساس الاعتراف المتبادل والقناعة بأنّ السلام لم يعد خيارًا أخلاقيًّا فحسب، بل ضرورة وجودية.

والثاني، هو الحوار بين القوى المدنية لتصميم العملية السياسية من حيث أهدافها وأطرافها وقضاياها، ودور المجتمعين الإقليمي والدولي فيها، وصولًا إلى اتفاق على مبادئ وأسس الحلّ السياسي الشامل وبناء الدولة على أسس جديدة.

فإذا كان سقوط الفاشر يمثل تطورًا خطيرًا في مسار الصراع العسكري، فإنّ المسار السياسي الذي يفرضه هذا التطور هو الأشدّ تعقيدًا، إذ ستكون نتائجه مؤثرة بصورة كبيرة على مجريات الأوضاع في المشهد السوداني. وقد بدأت القناعة تترسخ بأن لا حلّ عسكريّ منظورًا، بل مزيدًا من التعقيد والانزلاق نحو اللاعودة، وهو ما يهدد مصير البلاد ومستقبلها، ويجعلها رهينة للتقدّم في المسار السياسي وكبح جماح الحرب.

عقب سقوط الفاشر، برزت تحديات عديدة تؤثر في المسار السياسي، أبرزها:

بعد سقوط الفاشر حظيت الحرب في السودان باهتمام عالمي واسع إعلاميًا وسياسيًا ودبلوماسيًا في صحوة متأخرة للحرب المنسية. وقد شهدت المرحلة تحركات إيجابية باتجاه الهدنة الإنسانية، أبرزها تصريحات كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشؤون الأفريقية، مسعد بولس لقناة سكاي نيوز عربية: “نتواصل مع الطرفين للتوقيع على مقترح الهدنة الإنسانية الذي عرضناه عليهما، وقد وصل التفاوض إلى نقاط متقدمة. نطالب الطرفين بالتوقيع فورًا، فليس هناك ترف لإضاعة الزمن أو مبررات للتأخير”. كما دعا وزير الخارجية المصري بدر الدين عبد العاطي عبر قناة الحدث إلى هدنة إنسانية عاجلة ووقف فوري لإطلاق النار. وفي السياق ذاته، نشطت المجموعة الخماسية (الاتحاد الأفريقي، الإيقاد، الأمم المتحدة، الجامعة العربية، الاتحاد الأوروبي) في مشاورات مع التحالفات السياسية حول تفاصيل العملية السياسية ومعايير المشاركة والإطار الزمني للحوار، تمهيدًا لعقد اجتماع مشترك في أديس أبابا قريبًا. وفي موازاة ذلك، تتحرك القاهرة ضمن خطة الرباعية لتسهيل الحوار السياسي بين القوى المدنية والسياسية السودانية، حيث أجرى وفد مصري رفيع مشاورات مكثفة مع القوى المدنية في سويسرا لبحث المبادئ الإرشادية وآليات التحضير لـ”مؤتمر القاهرة الثاني”.

على الصعيد الداخلي، أعلن التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) خطة عمل لدعم جهود الرباعية، تضمنت: تكثيف الاتصالات بالجيش والدعم السريع لحثهما على إقرار هدنة إنسانية شاملة تشمل فتح الممرات وتوصيل المساعدات وحماية المدنيين. حشد جهود السودانيين في الداخل والخارج لتفعيل العمل الجماهيري الرافض للحرب والداعي إلى السلام العادل والدائم. تعزيز التواصل مع المنظمات الإنسانية الدولية لضمان وصول المساعدات، والمطالبة بدعم لجنة التحقيق الدولية المستقلة لتوثيق الانتهاكات. ابتعاث وفود للقاء الفاعلين الإقليميين والدوليين وطرح تصورات عملية لتسريع جهود إحلال السلام وفقًا لخارطة الرباعية. إطلاق حملات إعلامية لمناهضة خطاب الحرب والكراهية، ونشر رسائل تؤسس للسلام والوحدة والتحول المدني الديمقراطي.

كما انعقدت في مدينة نيون السويسرية خلال الفترة من 29 إلى 31 أكتوبر 2025 ورشة عمل نظمتها منظمة برومديشن، بمشاركة ممثلين عن تحالف صمود والكتلة الديمقراطية والحراك الوطني والتراضي الوطني وعدد من الأحزاب والشخصيات القومية، إلى جانب الاتحاد الأوروبي وصندوق التنمية السويسري والحكومة المصرية. وأكد المشاركون على ضرورة الإيقاف الفوري للحرب والانخراط في عملية سياسية شاملة تمهّد لإنهاء الصراع المستمر ووضع أسس لحكم مدني ديمقراطي، وشدّدوا على أهمية تهيئة بيئة مناسبة لإطلاق العملية السياسية بما يضمن الوصول إلى اتفاق شامل يوقف معاناة المواطنين ويحفظ وحدة البلاد.

واتُّفق مبدئيًا على مسارين رئيسيين: المسار الأمني والعسكري: يتناول وقف إطلاق النار، الترتيبات الإنسانية، وضمان وصول المساعدات، إضافة إلى وضع إطار شامل لإطلاق العملية السياسية. المسار السياسي: يركّز على بناء توافقات حول القضايا الوطنية الكبرى، وتحديد جدول للحوار الشامل، ومناقشة قضايا الانتقال. كما تم الاتفاق على مرحلة تحضيرية لبناء الثقة، تتضمن تثبيت وقف إطلاق النار وتهيئة المناخ للحوار، وتنظيم ورش عمل ومؤتمرات لمواصلة المشاورات بدعم من المجتمع الدولي.

ثمّة رأيان بشأن أفق الحل السياسي: يرى الأول أن الحرب مستمرة لتوفّر أسبابها، وأنّ الحديث عن حل سياسي الآن غير مجدٍ، ويجب إعلان التعبئة العامة والاستنفار ووقف الجهود الدبلوماسية. بينما يرى الثاني أن تغيّر الأوضاع بعد مأساة الفاشر يستوجب مخرجًا سياسيًا، فالحرب مهما طال أمدها لا بد أن تنتهي بالتفاوض والانتقال إلى مرحلة الحل السياسي، داعين إلى وقف الحرب اليوم قبل الغد.

أمّا طرفا الحرب، فلا يبدو أن أياً منهما يرغب في تحمّل تبعات استمرارها في ظلّ الضغوط الداخلية والخسائر البشرية والمادية، فضلًا عن الضغوط الخارجية المتزايدة من الحلفاء، التي تطالب بإنهاء الحرب وتقليل معاناة المدنيين والعودة إلى المسار السياسي.

لقد آن الأوان لتتويج الزخم السياسي والإعلامي والإقليمي والدولي بنتائج ملموسة تعيد للشعب السوداني الأمل وتفتح الطريق أمام حل سياسي شامل، يبدأ بهدنة إنسانية ووقف إطلاق النار، وينتهي بانتقال نحو هدنة دائمة أو طويلة الأمد عبر مفاوضات برعاية الرباعية. ومن ثمّ الانطلاق نحو مؤتمر مائدة مستديرة يضم القوى السياسية والمدنية لمعالجة جذور الأزمة وتداعياتها، وبناء عقد اجتماعي جديد يقوم على مشروع وطني يقطع الطريق أمام سيناريوهات التقسيم والتشظي. كما قال الإمام المهدي: “الفش غبينتو خرب مدينتو.”

 

Exit mobile version