الإقالات المتكرّرة لمحافظي بنك السودان المركزي وصراعات المصالح: أزمة استقلال السلطة النقدية في السودان

بقلم : عمر سيد أحمد
مقدمة
تشكّل تجربة بنك السودان المركزي خلال الأعوام الأخيرة مرآةً مكثّفة للأزمة البنيوية العميقة التي يعيشها الاقتصاد السوداني. فمنذ عام 2019، شهد البنك أحد عشر تغييرًا في قيادته خلال خمسة عشر عامًا، وهو معدل غير مسبوق لمؤسسة يفترض أن تقوم وظيفتها على الاستمرارية والحياد والاستقلال. يكشف هذا الاضطراب القيادي عن خلل مركّب: غياب إطار قانوني حصين يضمن الولاية والاستقلال، وتغوّل السلطة التنفيذية وشبكات المصالح على القرار النقدي، وتسييس مورد سيادي (الذهب) إلى درجة جعلت البنك المركزي ذاته جزءًا من ساحة الصراع بدل أن يكون حكمًا محايدًا.
أولًا: الأسباب البنيوية وراء الإقالات المتكرّرة
*1) تسييس القرار النقدي وتمويل العجز:* منذ انفصال جنوب السودان عام 2011، لجأت الحكومات إلى التمويل بالعجز عبر التوسّع النقدي المباشر وطباعة النقود، فأُقحم البنك المركزي في تلبية الإنفاق العام بدل التركيز على استقرار الأسعار. ومع كل اختلاف سياسي حول أولويات الصرف أو تسعير النقد الأجنبي، كان المنصب يُدار كأداة استجابة سريعة، فتحدث الإقالة ويأتي محافظ جديد بمنهج قصير الأجل.
*2) صراع المصالح حول الذهب:* بعد تراجع عائدات النفط، صار الذهب المورد الأول للنقد الأجنبي. لكن غياب الشفافية وتعدُّد مراكز القرار خلق شبكة مصالح متداخلة بين جهات نظامية وتجار وشركات امتياز. عندما أصدر المحافظ برعي الصديق في منتصف 2024 قرارًا بحصر تصدير الذهب عبر البنك المركزي، بدا القرار إصلاحيًا لضبط الحصائل وتقليل التهريب، لكنه اصطدم بمصالح اعتادت الاستفادة من فروقات السعر والسوق الموازي، فانطلقت حملة سياسية واقتصادية انتهت بإقالته في أكتوبر 2025. هذه الحالة كشفت هشاشة الحياد المؤسسي عندما يتحول المنظّم إلى فاعل تجاري.
*3) ثغرات القانون والحوكمة:* لا يحدّد القانون الساري مدة ولاية المحافظ ولا شروط عزله بدقة، ولا ينصّ على مجلس سياسات نقدية مستقلّ يضمن الاستمرارية المؤسسية. كما تراكمت ظواهر سوء الفصل بين الرقابة والتنفيذ، وتعددت مراكز القرار (وزارة المالية، لجان الاقتصاد، أجهزة نظامية) خلال فترات انتقالية، فتضاربت الإشارات وتآكلت المصداقية.
ثانيًا: أثر الإقالات على الجهاز المصرفي والاقتصاد
*على المصارف المحلية:* أحدث تغيُّر المحافظين المتكرر اضطرابًا تنظيميًا أفقد البنوك توقُّع القواعد (الاحتياطي الإلزامي، سقوف التمويل، ضوابط إدارة السيولة)، فباتت تتحاشى التعرّض الائتماني متوسط الأجل وتتجه للمضاربة في النقد الأجنبي والذهب. تراجعت وظيفة الجنيه كوحدة قياس مستقرة، وارتفع النقد المتداول خارج النظام المصرفي إلى مستويات قياسية، فتقلصت كفاءة الانتقال النقدي وتراجعت قدرة السياسة على كبح التضخم.
*على العلاقات الدولية والمراسلة المصرفية:* تضع المؤسسات الدولية «استقرار القيادة النقدية» ضمن مؤشرات الثقة. ومع تكرار الإقالات، خفَّضت المصارف المراسلة حدود التعامل، ورفعت متطلبات الامتثال (KYC/AML)، فازدادت تكلفة التحويلات التجارية والاعتمادات، وتدهورت القدرة على جذب خطوط تمويل للتجارة.
*على الاستثمار الأجنبي المباشر:* تراكمت حالة عدم اليقين التنظيمي والنقدي، خاصة في قطاعات التعدين والزراعة والقطاع المصرفي، فتراجعت قرارات الدخول والتوسّع، وانسحبت شركات متوسطة من خطط الاستثمار، مع بقاء عامل «قابلية التحويل واستقرار السياسة النقدية» عائقًا رئيسيًا.
ثالثًا: دروس مقارنة دولية
*غانا – نموذج الاستقلال القانوني:* تعديل 2016 حدّد ولاية المحافظ بسبع سنوات غير قابلة للعزل إلا قضائيًا؛ النتيجة انخفاض التضخم واستقرار سعر الصرف في غضون سنوات قليلة. الدرس: وضوح الولاية القانونية يحمي السياسة النقدية حتى في اقتصاد نامٍ.
*تركيا – تسييس البنك وفقدان المصداقية:* الإقالات المتكرّرة 2019–2023 قادت إلى انهيار واسع في قيمة العملة وارتفاع التضخم؛ الدرس: إخضاع السياسة النقدية للتدخلات اليومية يدمّر توقعات السوق.
*لبنان – استمرارية شكلية بلا مساءلة:* بقاء المحافظ نفسه لعقود لم يمنع الانهيار عندما غاب ركن الشفافية والرقابة البرلمانية؛ الدرس: الاستقرار الشكلي دون استقلال حقيقي وشفافية لا يحمي المؤسسة.
رابعًا: حصر صادر الذهب عبر البنك المركزي — تقييم السياسات
مثّل قرار حصر صادر الذهب عبر البنك المركزي (منتصف 2024) تعارضًا بين النية الإصلاحية والآلية التنفيذية. كان الهدف ضبط الحصائل وتقليص التهريب، لكن *تحوّل البنك من منظم للسوق إلى لاعب تجاري* أفقده حياده الرقابي، وأربك السوق، وفتح باب الشكوك الدولية في الامتثال وقابلية التحويل. النتائج قصيرة الأجل: تراجع الصادر الرسمي، ارتفاع الأسعار المحلية، زيادة التهريب، وتقلص التدفقات عبر القنوات المصرفية. القاعدة: البنك المركزي يضبط السوق ولا يتاجر.
خامسًا: البدائل المؤسسية لسوق الذهب
1) *بورصة وطنية للذهب* تعمل كمنصة تداول شفافة تحت رقابة البنك (من دون أن يمتلكها أو يحتكرها). تُسعَّر وفق مؤشرات عالمية (LBMA/COMEX) مع تسوية مصرفية فورية وربط آمن بمنظومة المدفوعات.
2) *مصفاة وطنية معتمدة دوليًا* لتوحيد الجودة وتمكين تسعير عادل وتقليل الخصومات على الذهب السوداني.
3) *فصل قانوني صريح* بين الدور الرقابي للدولة والدور التجاري للقطاع الخاص؛ يمنع الجهات السيادية من منافسة السوق الذي تنظمه.
سادسًا: إعادة تأسيس الاستقلال المؤسسي للبنك
*التعديل القانوني:* تحديد ولاية المحافظ بست سنوات غير قابلة للعزل التعسفي؛ إنشاء مجلس سياسات نقدية مستقل يضم خبراء غير حزبيين؛ قصر دور الحكومة على تحديد الأهداف الكلية، مع ترك أدوات التنفيذ للبنك.
*الحوكمة الداخلية:* وحدة تدقيق داخلي مستقلة ترتبط بمجلس الإدارة، ثبات القيادات الفنية، تقارير ربع سنوية شفافة عن التضخم وسعر الصرف والاحتياطي.
*العلاقة مع المالية:* اتفاق مؤسسي مكتوب يحد سقف التمويل الحكومي المباشر من البنك، ويلغي التمويل بالعجز كآلية دائمة، ويضع آلية تنسيق ربع سنوية لا تنتقص الاستقلال.
سابعًا: حزمة الاستقرار النقدي (2025–2026) — برنامج واقعي قابل للتنفيذ أيضًا
تهدف الحزمة إلى استعادة الثقة في السياسة النقدية خلال *مرحلة تنفيذية تمتد عبر 2025–2026، مع ترحيل **الأهداف الكمية القابلة للقياس إلى نهاية 2027* نظرًا لظروف الحرب وتدرّج التعافي المؤسسي. ترتكز الخطة على إجراءات محدّدة وقابلة للتنفيذ بإمكانات داخلية، دون افتراض تمويل خارجي واسع.
*1) تعديل القانون وتفعيل الحوكمة (أقصاه 6 أشهر)*
– تشكيل لجنة قانونية (وزارة العدل + بنك السودان + اتحاد المصارف + خبيران مستقلان) لصياغة تعديلات قانون البنك: *ولاية المحافظ 6 سنوات غير قابلة للتجديد، العزل عبر القضاء فقط، مجلس سياسات نقدية مستقل*.
– إدراج *حظر صريح* على أي نشاط تجاري للبنك المركزي (ومنها الاتجار بالذهب)، مع قصر دوره على التنظيم والرقابة.
*2) تنظيم العلاقة مع وزارة المالية (اتفاق مؤسسي مكتوب خلال 3 أشهر)*
– حدّ التمويل المباشر للخزانة *≤ 10% من الإيرادات* وبأجل قصير محدّد.
– لجنة تنسيق اقتصادية ربع سنوية لمراجعة العجز والدين المحلي وأثره على التضخم والسيولة.
*3) توحيد سعر الصرف ضمن نطاق مُدار (خطة من 6 مراحل خلال 12 شهرًا)*
– إطلاق *لوحة صرف يومية (FX Dashboard)* تحت إشراف البنك واتحاد المصارف للاقتراب المنضبط بين السعرين الرسمي والموازي.
– اعتماد *السعر المرن المُدار* بنطاق تذبذب معلن، مع مراجعة أسبوعية للأدوات المساندة.
– زيادة المعروض النظامي من النقد الأجنبي عبر: أ) حصائل الصادر، ب) تحفيز تحويلات المغتربين، ج) تسعير الذهب محليًا وفق مؤشرات عالمية وربطه بالتسوية المصرفية.
*4) ضبط السيولة وأدوات السوق المفتوحة (فوري + متابعة شهرية)*
– *إيقاف التمويل بالعجز* فورًا.
– إعادة طرح *أذون قصيرة الأجل* بعائد واقعي (نطاق 12–15%) لامتصاص السيولة الزائدة.
– رفع *الاحتياطي الإلزامي* تدريجيًا من 12% إلى 15% مع تقييم أثره على الائتمان الحقيقي.
> *ملاحظة حول التضخم (مرجع السياسات):* تقديرات 2025 تشير إلى تضخم سنوي مرتفع لكنه آخذ في التراجع مقارنة بالقمم السابقة؛ وهو ما يؤكد أولوية كبح التمويل بالعجز وضبط السيولة كمدخل واقعي للتهدئة السعرية خلال 2026، تمهيدًا لهبوط أوضح في 2027. (مرجع تحليلي: تقديرات صندوق النقد الدولي – آفاق الاقتصاد العالمي، أكتوبر 2025؛ وبيانات الجهاز المركزي للإحصاء للسودان 2025).
*5) تحفيز تحويلات السودانيين بالخارج (تنفيذي خلال 90 يومًا)*
– فتح حسابات عملات أجنبية للمغتربين عبر تطبيقات دفع مرخّصة، مع *إعفاء الرسوم المصرفية* على التحويلات الواردة.
– إصدار *“شهادة المغتربين الذهبية”* قصيرة الأجل، بعائد مرتبط بسعر الذهب العالمي وقابلة للاسترداد بالدولار/الذهب.
– ترتيبات تشغيلية مع بنوك الإمارات والسعودية وتركيا لتمرير التحويلات عبر القنوات المصرفية.

#### الأهداف الكمية القابلة للقياس — بنهاية 2027
المؤشر
خط الأساس (تقريبي 2025)
الهدف بنهاية 2027
ملاحظات تنفيذية
التضخم السنوي
≈ 85–87%ص
≤ 55%
وقف التمويل بالعجز وضبط السيولة
فجوة الرسمي/الموازي
≈ 130%
≤ 30%
تقدّم لوحة الصرف وتدفق الحصائل
النقد خارج الجهاز المصرفي
≈ 85% من M2
≤ 65%
تشجيع الادخار النظامي
نمو الودائع المحلية
—
≥ +25%
تحسين ثقة الجمهور والأدوات الادخارية
الاحتياطي الأجنبي
≈ 0.6 مليار $
≥ 1.5 مليار $
حصائل الصادر + تحويلات المغتربين
شفافية البيانات
مشتتة
تقارير أسبوعية + فصلية
متطلبات للمراسلة والامتثال
ثامنًا: الدلالات السيادية والاقتصادية
عندما يُختطف القرار النقدي لصالح شبكات النفوذ، تُفقد السيادة النقدية: تنهار العملة، يتآكل الائتمان، وتتلاشى الثقة المؤسسية. بالمقابل، يعيد الاستقلال القانوني والتشغيلي والمالي ثقة الداخل والخارج ويحفّز الاستثمار، كما برهنت تجارب غانا ورواندا وتنزانيا. الذهب في هذا السياق ليس سلعة تصديرية فحسب بل *أداة سيادية للتمويل* يمكن تفعيلها عبر سندات مدعومة بالذهب وصندوق سيادي يموّل إعادة الإعمار.
تاسعًا: رؤية إصلاحية متكاملة
1) *ترسيخ استقلال البنك* قانونيًا وإداريًا مع مساءلة برلمانية واضحة.
2) *تأسيس بورصة وطنية للذهب* ومصفاة معتمدة وربطهما بالتسوية المصرفية.
3) *تحديث الامتثال* وفق Basel III وFATF لتحسين تصنيف السودان في المخاطر والشفافية.
4) *توسيع الشمول المالي* بترخيص المحافظ الإلكترونية والبنوك الرقمية وربط المدفوعات بالمساعدات والتحويلات.
5) *شراكة مؤسسية مع البنوك* في صياغة السياسة النقدية عبر مجلس سياسات مستقل وتواصل دوري شفاف.
عاشرًا: تبعية محافظ البنك المركزي وآلية تعيينه — المعيار الدولي والممارسة السودانية
المعيار الدولي
تعرّف مراجع صندوق النقد الدولي (IMF) ولجنة بازل للرقابة المصرفية (BIS/BCP) ثلاثة أبعاد لاستقلال السلطات النقدية والرقابية: *قانوني* (إطار يحدّ العلاقة بالحكومة)، *تشغيلي* (تعيين/عزل وفق إجراءات قضائية واضحة بعيدًا عن التدخل اليومي)، و*مالي* (تمويل مستقل لا يخضع للموازنة). كما تنص *«مبادئ بازل الأساسية للإشراف المصرفي» (المبدأ 2)* على استقلال الجهة المشرفة وحمايتها القانونية وشفافية عملياتها.
الوضع في السودان
يُعيَّن المحافظ بقرار من السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية/مجلس السيادة/رئيس الوزراء) دون لجنة ترشيح مستقلة أو موافقة برلمانية ملزمة؛ ما جعل المنصب عرضة للتقلبات السياسية وأضعف الاستقلال المؤسسي والمصداقية الدولية.
المقترح الإصلاحي
– ترشيح المحافظ عبر *لجنة مستقلة* (برلمان + بنك مركزي + خبراء) مع تصديق شكلي من رأس الدولة.
– *ولاية 6 سنوات غير قابلة للتجديد*، والعزل بقرار قضائي مسبب فقط.
– مساءلة أمام البرلمان عبر *مجلس إدارة مستقل* لا أمام وزارة المالية.
– *اشتراط الكفاءة والحياد* شرطًا قانونيًا صريحًا.
– فصل واضح: الحكومة تحدد الأهداف الكلية، والبنك يختار أدوات التنفيذ النقدية.
جدول مقارن لآليات تعيين المحافظين ومدة ولايتهم
الدولة
الجهة المعيِّنة
مدة الولاية
قابلية العزل
ملاحظات
السودان (الوضع الحالي)
السلطة التنفيذية (قرار من رئيس مجلس السيادة/الوزراء)
غير محددة
قابلة في أي وقت
ضعف استقلال مؤسسي
السودان (المقترح)
لجنة مستقلة + مصادقة البرلمان
6 سنوات غير قابلة للتجديد
فقط بقرار قضائي
متوافق مع معايير IMF/BIS
غانا
رئيس الجمهورية بعد توصية البرلمان
7 سنوات
عبر القضاء فقط
استقرار نقدي منذ 2016
كينيا
لجنة ترشيحات مستقلة + البرلمان
4 سنوات قابلة للتجديد مرة
بقرار لجنة خاصة
تحسّن الثقة النقدية
الولايات المتحدة
الرئيس + مجلس الشيوخ
4 سنوات قابلة للتجديد
شبه مستبعدة
استقلال شبه تام
تركيا
رئيس الجمهورية
4 سنوات
بقرار رئاسي مباشر
تسييس مرتفع وضعف الثقة
خاتمة
الأزمة ليست أزمة أشخاص بل أزمة «هندسة مؤسسية». طالما بقيت آلية تعيين المحافظ تابعة لتوازنات السلطة، ستظل السياسة النقدية رهينة المدى القصير، وسيبقى الجنيه أسير فقدان الثقة. يبدأ الإصلاح بتشريع يحمي الاستقلال ويضمن الولاية ويؤسّس لمجلس سياسات مستقل، وبسوق ذهب منظم شفاف، وبحوكمة وامتثال يفتحان قنوات المراسلة والتمويل. عندها فقط يمكن للسودان أن يستعيد سيادته النقدية ويفتح مسارًا جادًّا للتعافي والازدهار.
*خبير مصرفي ومالي مستقل





