سَلامُ ما بَعْدَ الهُدْنَةِ

بقلم : وجدي كامل

تُواجه العدالة وسيادة القانون في السودان مهاماً جسيمة، بينما تتقدّم القوى والمجتمعات المدنية إلى واجهة المسؤولية الوطنية في واحدة من أكثر المراحل تعقيداً في تاريخ البلاد. فمع الحديث المتزايد، والمعلومات المتسربة عن موافقة الطرفين المتحاربين على مقترح الآلية الرباعية، وخاصة ما يتصل بالهدنة الإنسانية لمدة ثلاثة أشهر، تلوح في الأفق فرصة نادرة يمكن أن تمهد لسلام مستدام، إن أُديرت بحكمة ووعي جماعي.

لكنّ السلام لا يتحقق بقرار سياسي فحسب، بل بعملية شاملة تُعيد بناء الدولة والمجتمع معاً. فالحرب لم تدمّر البنية التحتية وحدها، بل أصابت نسيج الثقة بين المواطنين، وزرعت الشكوك والخوف في الحياة العامة. لذا فإن المهمة الأولى أمام القوى المدنية هي إعادة ترميم هذا النسيج الاجتماعي، وإحياء روح التماسك والتسامح التي عُرف بها السودانيون عبر تاريخهم.

إنّ العدالة الانتقالية تمثل مدخلاً ضرورياً لتحقيق الاستقرار، فهي ليست انتقاماً من أحد، بل وسيلة لتضميد الجراح وتأكيد أن لا أحد فوق القانون. ومن شأن إطلاق حوار وطني للقوى الديمقراطية الحقيقية حول قضايا الانتهاكات، والتعويض، والمساءلة، أن يُعيد الثقة في فكرة الدولة نفسها، وإعادة تعريفها سودانياً بما يمنع تكرار المأساة مستقبلاً.

 

وفي الميدان الاقتصادي، لا يمكن الحديث عن سلام دائم من دون رؤية واضحة لإعادة الإعمار والتنمية. فالمجتمعات التي دمرتها الحرب تحتاج إلى مشاريع إنتاجية صغيرة، وبرامج دعم للنازحين والعائدين، وإعادة تأهيل للخدمات الأساسية من تعليم وصحة ومياه وبيئة. وهنا يبرز دور المجتمع المدني، ليس كبديل عن الدولة، بل كشريك فاعل يملأ الفراغ الإداري، ويدعم الجهود الحكومية بالخبرة والمرونة والقرب من المواطن. ذلك لا يتم دون تحرير المفاهيم الاقتصادية والملكيات ومفاتيح اقتصاد الدولة من الإخوان المسلمين والعمل على استعادة الأموال المنهوبة قبل الثورة وأثناء الانتقال وبعد انقلاب ٢٥ أكتوبر وفترة الحرب.

كما أن الإعلام والمثقفين السودانيين مطالبون بلعب دور إيجابي في توجيه الخطاب العام نحو المصالحة والبناء، بعيداً عن التحريض والانقسام. فالكلمة في مثل هذه اللحظات لا تقل أثراً عن الرصاصة، والوعي الجمعي يحتاج إلى أصوات عاقلة تعيد الثقة بالسلام وتزرع الأمل في المستقبل.

أما على المستوى الثقافي، فإن التغيير الحقيقي يبدأ من إعادة بناء القيم الاجتماعية على أسس المشاركة والمسؤولية والمواطنة. فالحرب أضعفت الإحساس بالانتماء، وآن الأوان لزرع ثقافة جديدة تُعلي من قيمة العمل والتضامن والاختلاف الخلّاق. إن بناء السودان لن يكون مهمة حكومة واحدة أو جيل واحد، بل مشروعاً مفتوحاً تتوارثه الأجيال بروح المشاركة والإصرار.

وفي النهاية، يظل الرهان الأكبر على القوى المدنية، فهي اليوم أمام اختبار تاريخي: هل تستطيع أن توحّد صفوفها وتقدّم نموذجاً جديداً في العمل الوطني؟ أم ستظل أسيرة الانقسامات والتجاذبات القديمة؟

إن أعباء السلام فادحة، ومسؤولية البناء تتسم بدرجة عالية من التعقيد، بالنظر إلى حجم الخسائر التي لحقت بالبنى الاقتصادية والعمرانية والاجتماعية والنفسية والسياسية على حدٍّ سواء. فهل نحن، حقاً، على استعداد لتعلّم معنى الوطن من جديد؟ وهل نحن قادرون على استعادة روح التضامن المفقود؟                                

إن الإجابة عن هذا السؤال ستحدد، بدرجة كبيرة، ما إذا كان السودان سيتجه نحو سلام مستدام وتنمية حقيقية، أم سيعود إلى دوامة الأزمات التي أرهقته لعقود.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى