ما بعد اليمين واليسار: نحو التيار الإنساني والوسط الواعي

 أحمد الليثي

 

“حين تتعب الأفكار من صراعها، ينهض الإنسان من تحت الركام، ليعيد إلى السياسة معناها الأول: خدمة الحياة لا إدارة الانقسام.”

 *تقديم*

منذ ولادة الثنائية السياسية الشهيرة في فرنسا عام 1789، حين جلس أنصار الملك على يمين القاعة وأنصار الثورة على يسارها، انقسم العالم على ذاته بين يمينٍ محافظ ويسارٍ تغييري.

لكن بعد قرنين من الصراع، ومع تحوّل الأيديولوجيا إلى سجون فكرية، أصبح السؤال الأهم اليوم ليس:

أين نقف؟

بل: لأجل من نقف؟

هكذا يطلّ فجر جديد في التفكير السياسي — فجر التيار الإنساني، الذي يعيد الإنسان إلى مركز المعادلة، ويبحث عن وطنٍ يتّسع للعدل والحرية معاً.

 من باريس إلى الشرق: تحوّل المفهوم

إنتقلت فكرة اليمين واليسار إلى العالم العربي لا كتقليدٍ سياسي، بل كبحثٍ عن خلاصٍ بعد قرونٍ من القهر والإستعمار.

ظهر اليسار العربي ممثلاً في الحركات الاشتراكية والقومية، التي رفعت شعار العدالة والتحرر والمساواة،

فيما مثّل اليمين التيارات المحافظة والدينية التي رأت في الحداثة خطراً على الإيمان والهوية.

لكن الصراع لم يكن دائماً صراع أفكار، بل صراع سلطة ومصالح، حتى تحوّل السياسي إلى أداةٍ للهيمنة لا وسيلةٍ للنهضة، وغابت الإنسان بين الشعارات المتقابلة.

اليمين واليسار في المرآة السودانية

في السودان، إكتسبت الثنائية أبعاداً أكثر عمقاً وتعقيداً.

ظهر اليسار في صورة الحركة الشيوعية والنقابات والطلائع الطلابية التي حملت شعارات العدالة الاجتماعية،

بينما تمثل اليمين في الأحزاب الطائفية والإسلامية التي جمعت بين الدين والسياسة.

لكن مع تعاقب الإنقلابات والخيبات، تحوّل التناقض بينهما إلى مأزقٍ وطني متكرر:

اليمين يوظّف الدين لخدمة السلطة،

واليسار يلهث وراء الثورة دون أن يكتمل الوعي.

وفي المسافة بينهما، تآكلت الدولة وضاعت الطبقة الوسطى التي كان يمكن أن تكون الجسر بين الحلم والعقل.

*ما بعد الثنائية: ولادة التيار الإنساني*

حين تخبو الأيديولوجيات وتنهار الأصنام الفكرية، يبدأ الإنسان في البحث عن المعنى قبل الإنتماء.

هناك يولد ما يمكن تسميته بـ التيار الإنساني — تيار لا يعبد اليمين ولا اليسار، بل يعيد الإنسان إلى مركز الفعل والمعنى.

هو التيار الذي يرى أن:

الإقتصاد بلا أخلاقٍ عبوديةٌ جديدة،

والدين بلا حريةٍ قيدٌ جديد،

والثورة بلا وعيٍ كارثةٌ جديدة.

فاليسار الذي حلم بالمساواة نسي القلب،

واليمين الذي دافع عن الإيمان نسي الإنسان.

أما التيار الإنساني، فيسعى إلى أن يجعل من العدالة رحمة، ومن الحرية ضميراّ، ومن الهوية لقاءً لا قيداً.

 *الوسط الواعي: فلسفة التوازن لا المساومة*

ليس الوسط الواعي منطقة رمادية بلا موقف، بل فلسفةُ توازنٍ بين الأضداد دون محوها.

هو الإيمان بأن الإنسان يحتاج إلى الخبز كما يحتاج إلى المعنى،

إلى الحرية كما يحتاج إلى الأمان،

إلى الفردية كما يحتاج إلى الإنتماء.

في هذا الوسط،

تُصبح العدالة الاجتماعية واجباً لا شعاراً،

والإيمان اختياراً لا سلاحاً،

والوطن فضاءً مشتركاً لا غنيمةً للمنتصرين.

إنه وسطٌ ناضج لا متردّد، يرى في الحكمة أفقاً ثالثاً يتجاوز اليمين واليسار، مثلما تتجاوز الروح الجسد لتبقى.

 *السودان وأفق التيار الإنساني*

ربما يكون هذا التيار هو أمل السودان الأخير بعد أن أرهقته الشعارات والإنقسامات.

فقد عرف السودان يمينًا متدثراً بالدين ويساراً متحمّساً بلا توازن،

وانتهى إلى وطنٍ يبحث عن نفسه في مرايا الماضي.

التيار الإنساني لا يتحدث باسم حزبٍ أو طبقة، بل باسم الكرامة الإنسانية ذاتها.

وإن كانت الفكرة لا تُختزل في حزبٍ أو كيان،

إلا أنّ بعض التجارب السياسية السودانية حاولت أن تقترب من روح هذا التيار الإنساني في الممارسة والرؤية.

فحين يصبح الإنسان هو الغاية، لا الوسيلة،

يعود الوطن إلى معناه، وتُستعاد السياسة بوصفها عملاً أخلاقياً لا غنيمةً سلطوية.

وحينها، لن يُسأل السوداني:

“أأنت يميني أم يساري؟”

بل يُسأل السؤال الأعمق والأصدق:

“أأنت مع الإنسان أم ضده؟”

 *خاتمة مفتوحة: حين يعود الإنسان إلى مركز الدائرة*

ربما لا يحتاج العالم إلى مزيدٍ من اليمين أو اليسار، بل إلى قلبٍ يعرف كيف يسمع أنين الإنسان خلف ضجيج الشعارات.

ففي النهاية، لا يبقى من السياسة سوى ما خدم الحياة،

ولا يُخلّد من الفكر إلا ما أنقذ الإنسان من عبوديته الجديدة — عبودية الخوف والطائفة والمصلحة.

حين يعود الإنسان إلى مركز الدائرة، تتلاشى الاتجاهات،

ويغدو اليمين واليسار مجرد ظلّين يتلاقيان عند النقطة التي يبدأ منها النور.

هناك، حيث يصبح العدل رحمة، والحرية صلاة، والهوية لقاءً لا جداراً —

تبدأ السياسة الحقيقية:

سياسة القلب والعقل معاً، لا السياسة التي تنتهي عند الكرسي.

Exit mobile version