آخر خيط للنجاة

 

في الوقت الذي تشتعل فيه نيران الحرب في السودان، وتزداد رقعة الدمار والتهجير، لم يعد الحديث عن الهدنة الإنسانية ترفاً دبلوماسياً أو شعاراً يردده الوسطاء في المؤتمرات، بل أصبح حاجةً وجودية، وضرورةً أخلاقية وسياسية لا تحتمل التأجيل. فكل يومٍ يمرّ دون هدنة، يعني مزيداً من الجثث المجهولة، والأطفال الجائعين، والمدن التي تُمحى من الذاكرة الوطنية.

لقد تجاوزت الكارثة حدود الصراع العسكري بين قوتين، لتتحول إلى مأساة وطنية تضرب جذور المجتمع السوداني. ملايين النازحين في الداخل والخارج، وإنهيار شامل للبنى التحتية، وغياب الخدمات الأساسية من دواء وغذاء وماء وكهرباء، وسط صمت دولي متردد، وإصطفاف إقليمي مرتبك، وتشتت سياسي داخلي لم ينجُ من خطاب الكراهية والإنقسام.

إنّ الهدنة الإنسانية ليست مجرد وقف مؤقت لإطلاق النار، بل هي فرصة لإعادة ترميم ما تبقّى من إنسانية هذا الوطن الجريح. فالهدنة تفتح أبواب الممرات الإنسانية، وتتيح وصول المساعدات إلى المستشفيات والمناطق المنكوبة، وتمنح المدنيين إستراحة من رعب الطائرات والمدافع. لكنها أيضاً، في جوهرها، إختبار للضمير الوطني: هل ما زال هناك ما يوحّدنا على قيمة الحياة؟

من المؤسف أن تتحول أرواح السودانيين إلى أوراق تفاوض، وأن يصبح الخبز والدواء رهائن للرصاص. فما الجدوى من إنتصارٍ فوق الركام؟ وما قيمة أي سلطة في بلدٍ بلا بشر؟ إنّ الهدنة، أيا كانت مدتها أو شروطها، هي المدخل الوحيد لإستعادة الحدّ الأدنى من الثقة، ومن ثمّ فتح الطريق نحو حلٍّ سياسي شامل. فالحروب لا تُحسم في الميدان، بل تُطفأ بالحكمة والتنازل.

إنّ تجربة العالم حافلة بالدروس. فكل حربٍ إنتهت، إنما بدأت بوقفٍ مؤقت لإطلاق النار، تحوّل مع الوقت إلى تسوية دائمة. والذين يترددون اليوم في قبول الهدنة، هم ذاتهم الذين سيجلسون غداً على طاولة التفاوض، لكن بعد أن يكون الثمن أفدح، والخسائر أعظم، والجراح أعمق. لذلك فإن الدعوة إلى هدنة إنسانية لا تعني الوقوف مع طرفٍ ضد آخر، بل هي إنحياز كامل للحياة، وإنتصار لحقّ البسطاء في الأمان.

في ظل هذا الإنسداد، يبرز دور المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية والإعلام الحر، ليكونوا جميعاً صوت الضمير الحيّ. فالكلمة الصادقة قادرة على إختراق جدران الكراهية، وإحياء الأمل في قلوب الناس. كما أن على القيادات السياسية والعسكرية أن تدرك أن الصمت الدولي لن يدوم، وأن تراكم المآسي سيقود حتماً إلى عزلةٍ ومساءلة.

لقد أثبتت الوقائع أنّ الحرب الراهنة لا غالب فيها ولا مغلوب، وأنّ إستمرارها لن يثمر سوى خرابٍ مضاعف. ومع ذلك، فإنّ فرص الإنقاذ ما زالت ممكنة إذا ما إجتمع العقلاء حول هدنةٍ تُبنى على أسس إنسانية واضحة: حماية المدنيين، تأمين الممرات الإغاثية، وإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين. هذه ليست بنود تفاوض سياسي، بل شروط حياة كريمة لشعبٍ أنهكته الحرب.

إنّ ما تحتاجه البلاد اليوم ليس مزيداً من السلاح، بل مزيداً من الإرادة، والصدق مع الذات. فالمعركة الحقيقية ليست في السيطرة على المدن، بل في إنقاذ ما تبقى من الدولة، من المجتمع، من النسيج الإنساني الذي كاد يتمزق. وإذا كانت القوى الدولية جادة في حديثها عن السلام، فعليها أن تضغط بكل الوسائل من أجل هدنةٍ فورية، تُراقَب بآليات شفافة وتُنفّذ دون استثناءات أو ذرائع.

وفي المقابل، فإنّ القوى الوطنية، بكل أطيافها، مطالبة بأن تتعامل مع الهدنة لا كمكسبٍ مؤقت أو مناورة سياسية، بل كبداية لمسار جديد يضع الإنسان في مركز الاهتمام. فالسودان الذي عرف التعايش والتسامح عبر قرونه، لا يمكن أن يُختزل في هذا المشهد الدموي. هناك وطنٌ كامل ينتظر أن نعيد إليه الحياة.

إنّ الهدنة الإنسانية اليوم هي الخطوة الأولى نحو ضوءٍ بعيد في نهاية النفق. ربما لا تنهي الحرب، لكنها قد تنقذ جيلاً من الفناء. وربما لا تُعيد الثقة فوراً ، لكنها تُذكّرنا بما فقدناه من إنسانيتنا.

فلنقلها بوضوح: إيقاف إطلاق النار واجب وطني قبل أن يكون مطلباً دولياً . فحين تتوقف البنادق، تبدأ القلوب في إستعادة صوتها. وعندما تصمت المدافع، يمكن للعقل أن يتكلم.

Exit mobile version