السودان بلد المليشيات

إبراهيم مهدي هباني

 كيف تحوّل السودان من “المشروع الحضاري” إلى دولة تتقاسمها البنادق والولاءات؟!

الجيش السوداني يصف خصمه (الدعم السريع) بأنه “مليشيا متمردة”.

لكن هذه العبارة تكشف أكثر مما تخفي، فحين تصف الدولة خصمها بالمليشيا، فهي تقر بأن المليشيا أصبحت جزءا من النظام السياسي، لا خروجاً عليه.

اليوم لا أحد يعرف عدد الجيوش في السودان.

من الشرق إلى الغرب، ومن دارفور إلى الشمال، تتناسل التنظيمات المسلحة بأسماء مختلفة:

“التحرير”، و”العدالة”، و”الدرع”، و”الكرامة”، وأوورطة قبلية وأخواتها تتدرب في إريتريا،  وقوات اخوانية تذبح وتبقر البطون  مصوبة بتكبير وتهليل!

النتيجة واحدة: 

وطن تتنازعه البنادق أكثر مما تحكمه القوانين.

هذه الفوضى ليست وليدة اللحظة.

ففي 30 يونيو 1989، قرأ عمر البشير بيان الانقلاب من مقر منظمة الدعوة الإسلامية، معلناً قيام ما سمّي يومها “المشروع الحضاري”.

لكن المشروع الذي وعد بالنهضة انتهى بصناعة أول مليشيا رسمية في تاريخ السودان الحديث.

بأمر من عراب الخراب، حسن الترابي، أُنشئت قوات الدفاع الشعبي لتكون ذراعاً عقائدية موازية للجيش.

تدربت في في بداياتها  بمعسكرات تابعة للهيئة الشعبية للدفاع عن العقيدة والوطن، وبعض منشآت منظمة الدعوة الإسلامية.

ومنذ ذلك اليوم، بدأ تفكيك الدولة من الداخل، إذ تحوّل الولاء للتنظيم إلى بديل عن الولاء للوطن.

ومع مرور السنوات تبدلت الأسماء وبقي السلاح.

تحولت المليشيات من عقائدية إلى قبلية، ومن “الجهاد” إلى تجارة.

وصارت السلطة تدار عبر الولاءات لا عبر المؤسسات، حتى غابت الدولة، وبقي السلاح عنوان المرحلة.

وفي مقاربة مؤلمة، تحتفي سلطة الأمر الواقع في  السودان التي استضافت  أسامة بن لادن بالأمس، اليوم بتهديد تنظيم “القاعدة” بالانتقام “للسودان”.

إنه المشهد نفسه الذي عاشته دول أخرى عندما استخدمت الجماعات المتطرفة لأهداف سياسية، ثم إكتشفت أنها لا تعترف بحدود ولا بسيادة.

لقد كان “المشروع الحضاري” في جوهره مشروع تفكيك لا بناء، أنتج ثقافة المليشيا لا ثقافة الدولة، وزرع عقيدة العنف بدل مؤسسات العدالة.

والنتيجة بلد يعيش على إيقاع السلاح بين جيشٍ يصف خصومه بالمتمردين، ومليشيات ترى نفسها الشرعية الوحيدة.

فلا حكم مطلق لمن يمول المليشيات.

فمن يزرع الفوضى بالشعار يحصد الخراب، ومن يخلط الدين بالسياسة يفقد الدولة والدين  معا.

الشعب السوداني المحترم الذي أنهكته الشعارات، يحتاج إلى دولة عقلانية تدار بالقانون لا بالعقيدة،

وبالبناء لا بالسلاح، على الطريق ذاته الذي إختارته الدول المستقرة في الإقليم حيث الأمن والتنمية هما المعركة الحقيقية ضد التطرف.

Exit mobile version