حسام حامد
الحرب أنهكت البلد وتقاطعت فيه خطوط النار مع مسارات النزوح، إذّ يعيش السودانيون واحداً من أكثر الفصول قسوة في تاريخهم الحديث؛ فكل هُدنة تُعلن تُشعل في قلوبهم بصيص أمل، لكن سرعان ما يتحول ذلك الأمل إلى قلقٍ عميق، حين تُخرق الهُدنة وتعود أصوات المدافع لتذكرهم بأنهم ما زالوا عالقين في دوامة اللاإستقرار.
النزوح المتجدد.. دائرة لا تنتهي
منذ إندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، أصبح النزوح الداخلي واقعاً قاسياً يتكرر في حلقات مأساوية؛ فالكثير من الأسر التي نزحت في الأيام الأولى للصراع وجدت نفسها بعد أسابيع قليلة مضطرة إلى النزوح مجدداً، بعد أن تحولت المناطق التي لجأت إليها إلى بؤر جديدة للقتال.
“أحمد آدم”، أحد النازحين، يُلخص هذه المأساة بقوله: “بمجرد إندلاع الحرب في الخرطوم، تحركت مع إسرتي إلى ود مدني بحثاً عن الأمان، لكن ما لبثنا أن سمعنا أصوات الإشتباكات تقترب، فانتقلنا إلى ود الحداد، ثم إلى سنار، ومنها إلى كوستي، فالأُبيِّض، قبل أن نعود في النهاية إلى أم درمان؛ والآن، مع تزايد الهجمات بالطائرات المسيّرة، لا نستبعد أن نكون مضطرين للنزوح مرة أخرى”.
رحلة “أحمد” ليست إستثناءً، بل نموذج متكرر لعشرات الآلاف من العائلات السودانية التي لم تجد ملاذاً آمناً يطول بقاؤها فيه؛ فالمناطق التي كانت تُصنف “آمنة” أصبحت اليوم مهددة، فيما باتت الولايات الشمالية “بحكم بعدها النسبي عن خطوط النار”، الملجأ الأخير للمواطنين الفارين من جحيم الحرب.
الأُبيِّض.. نزوح صامت قبل العاصفة
وفي السياق؛ يروي “مرتضى جبارة”، أحد سكان مدينة الأُبيِّض، مشاهداته قائلاً: “نزحت من أم درمان إلى الأُبيِّض مع بداية الحرب، وظننت أنني وجدت أخيراً مكاناً آمناً، لكن بعد سقوط الفاشر وبارا، بدأت المدينة تشهد حالة نزوح صامتة، الناس الذين ذاقوا مرارة النزوح سابقاً بدؤوا يرحلون مبكراً قبل أن تصل النيران إلى ديارهم”.
تصريح “مرتضى” يكشف عن نمط جديد من الهجرة القسرية في السودان، نزوح إستباقي تحكمه ذاكرة الحرب والخوف من تكرار التجربة، فالكثيرون لم يعودوا ينتظرون المعارك كي تبدأ، بل يغادرون فور سماعهم إشارات التوتر أو اقتراب خطوط القتال؛ وهكذا، تحولت المدن إلى محطات مؤقتة، يمر بها الناس دون أن يشعروا بالإنتماء أو الإستقرار.
الهدنة.. طوق نجاة مؤقت
وسط هذه المآسي المتراكمة، جاءت أنباء سعي الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، وبريطانيا) لإعلان هُدنة جديدة، لتنعش الآمال في نفوس السودانيين الذين أرهقتهم الحرب، فالهُدنة، بالنسبة للمواطن العادي، ليست حدثاً سياسياً بقدر ما هي فرصة لإلتقاط الأنفاس، وعودة مؤقتة للحياة الطبيعية، مهما كانت قصيرة.
إلى ذلك، يرى المواطنون أن نجاح الهُدنة سيمثل “طوق نجاة” حقيقي، خاصةً لسكان المُدن المهددة مثل الأُبيِّض وكوستي وأم درمان، فالكثير من الأسر تعيش اليوم على أمل أن يُعلن وقف إطلاق النار بشكلٍ رسمي، حتى تتمكن من العودة إلى منازلها أو على الأقل البقاء في مناطقها دون خوف من القصف أو الهجمات الجوية.
لكن في المقابل، لا يخلو المشهد من التشكيك، فالتجارب السابقة تركت جرحاً عميقاً في الذاكرة الجمعية للسودانيين، إذّ لم تصمد أي هُدنة طويلة بما يكفي لتبدد الخوف من عودة الإشتباكات؛ يقول أحد المواطنين في العاصمة: “كل هُدنة نسمع بها نعتبرها إستراحة محارب، لا أكثر، سرعان ما تُخرق، وتعود المعاناة مضاعفة”.
العودة الخاطئة.. ندم اللاجئين العائدين
من المفارقات المؤلمة أن بعض السودانيين الذين عادوا من دول الجوار بعد تحسن مؤقت في الأوضاع، وجدوا أنفسهم محاصرين من جديد في قلب الصراع؛ “مصطفى عمر”، أحد العائدين من الخارج، يروي قصته بمرارة: “قررت العودة إلى الخرطوم بعد أن سمعت بتقدم الجيش وسيطرته على عدّة مناطق، كنت أظن أن الإستقرار بدأ يعود، وأن الوقت حان لإنهاء الغربة، لكن الهجمات بالطائرات المسيّرة على أم درمان وعطبرة جعلتني أندم على العودة، لقد أخطأت التقدير”.
قصة “مصطفى” تختزل مأساة “العودة الخاطئة”، حيث دفع الأمل الزائف بالإستقرار كثيرين إلى الرجوع للوطن، ليجدوا أنفسهم مجدداً في مواجهة خطر الموت والنزوح.
المساعدات الإنسانية.. أمل يتبدد
وفي السياق؛ بينما تتحدث الرباعية عن هُدنة إنسانية، يعيش ملايين السودانيين في ظل أزمة متفاقمة في الغذاء والمأوى والرعاية الطبية، فالمنظمات الإنسانية تواجه صعوبات هائلة في الوصول إلى المناطق المتأثرة، سواء بسبب تدهور الأوضاع الأمنية أو تعقيد الإجراءات الإدارية.
إزاء ذلك؛ يقول أحد المتطوعين العاملين في مجال الإغاثة: “الناس لا يحتاجون إلى الهُدنة فقط، بل إلى ضمانات حقيقية لحماية المدنيين، فبدون أمن، لا يمكن إيصال الدواء أو الغذاء أو المساعدات، كل هُدنة بلا التزام عملي تتحول إلى حبر على ورق”.
بلد في حيرة… ومواطن في متاهة
إلى ذلك وفي ظل هذه الدوامة، يبدو السودان وكأنه يقف عند الحافة، فالحرب أنهكت الجميع عسكر ومدنيين، وأفقدت الناس الثقة في أي حديث عن السلام، وبينما تواصل القوى الإقليمية والدولية محاولاتها لفرض وقف إطلاق نار شامل، يبقى المواطن السوداني تائهاً بين الخوف والرجاء، لا يدري إلى أين يمضي به هذا الصراع المفتوح.
لقد تحولت حياة الملايين إلى سلسلة من القرارات الاضطرارية، هل نبقى أم نرحل؟ هل نصدق الهُدنة أم نستعد للأسوأ؟ ومع كل يوم يمر، تزداد مساحة الغموض، وتتقلص مساحة الأمان.
الخاتمة.. سلام مؤجل
قد تمنح الهدنة القادمة بقيادة الرباعية السودان استراحة قصيرة من الحرب، لكنها لن تكون الحل النهائي ما لم يصاحبها حوار حقيقي وإرادة سياسية لإنهاء الصراع؛ فالمواطنون الذين نزحوا مراراً لم يعودوا يطلبون الكثير، فقط أن يناموا ليلة دون خوف، وأن لا يستيقظوا على دويّ القصف أو أخبار النزوح الجديد.
والمؤكد أنّ البلاد أضحت بحاجة إلى ما هو أكثر من هُدنة، بحاجة إلى سلام شامل يعيد للناس ثقتهم بالحياة؛ وحتى يتحقق ذلك، سيظل النازحون يسيرون في الدائرة نفسها، بين هُدنة مكسورة وأملٍ مؤجل، وبين وطنٍ يحترق وشعبٍ يبحث عن مأوى داخل حدوده التي باتت تضيق به يوماً بعد يوم.