من القبة إلى الركام

 

بابنوسة.. مدينة خلت من أهلها

سيرة بلد حلم بالحداثة وإستيقظ على أزيز الطائرات

بعد ما يقارب القرن من الزمان، لم يعد في بابنوسة مدنيون

إختفت الملامح التي كانت تُميزها: الأسواق، ومصنع الألبان، وصافرة القطار، وصوت أم كلثوم المنبعث من “بيك أب” عابر، وحوارات المقاهي المسائية حول السياسة والكرة والنقابات

حلّت مكانها أصوات الطائرات المسيّرة، وصفير القذائف، وصمت النزوح الثقيل

بابنوسة مدينة لها وقع خاص في نفوس السودانيين من زارها وحتى ذاك الذي سمع عنها في الحكاوي كانت رمزاً للتمازج السوداني، صارت عنواناً للفقد والخذلان.

لكن قبل أن تبتلعها الحرب، كانت هذه المدينة الصغيرة في عمق الغرب السوداني مرآة صادقة لبلدٍ كان يحلم، ويؤمن أن المدنية ممكنة حتى في قلب البادية

القبة الأولى

كان إسمها القديم “القُبّة”، نسبةً إلى قبة الشيخ الولي أبو إسماعين، الجد الروحي لأسرة النور، التي خرج منها القيادي في حزب الأمة، الراحل عبد الرسول النور.

ولا يزال الحي القديم في المدينة يحمل الاسم ذاته: حي أبو إسماعين، تذكيراً بالبدايات الصوفية التي شكلت روح المنطقة

وفي ديسمبر عام 1948، افتتح الزعيم عبد الرحمن عبد الكريم أول متجر في المنطقة، بإقتراح من والده الفكي عبد الكريم جبريل، فكانت تلك اللحظة الشرارة التي أطلقت الحياة التجارية في المدينة، بحسب العديد من الرواة الذين تحدثوا عن تاريخ نشأتها.

ومع مرور السنوات، تحوّل الإسم إلى بابنوسة، وينطقها أهلها “البابنوصة”، في إشارة إلى شجرة الأبنوس التي كانت تنتشر حول المنطقة وتضفي عليها مسحة من السواد اللامع كالأمل المطفأ

زمن السكة الحديد

في ستينيات القرن الماضي، تبدّل وجه بابنوسة

وصل شريط السكة حديد، قادماً من نيالا ومتجهاً إلى واو، لتصبح المدينة رئاسة القسم الغربي لسكك حديد السودان، وتتحول من قرية نائية إلى محطة مركزية تربط الجنوب بالشمال، والغرب بالوسط

لكن السكة حديد لم تجلب فقط البضائع والمسافرين، بل حملت معها أفكاراً جديدة، ووجوهاً من النضال.

فقد كانت بابنوسة منفىً للمناضلين والنقابيين الذين أبعدتهم الحكومات المتعاقبة من الخرطوم، فوجدوا في هذه المدينة ملجأً للعمل السياسي والتنظيمي، وحضن يحتويهم ويخبئهم كمن عيون البصاصين.

بعد ثورة أكتوبر، أرسل الحزب الشيوعي السوداني أحد أبرز متفرغيه، عبد الحميد علي، الذي عاش بين الناس باسم حركي هو بابكر، وأصبح لاحقاً عضواً في سكرتارية الحزب المركزية

بابكر والناظر

في بابنوسة، لم يكن العمل السياسي معزولاً عن المجتمع الأهلي

فقد نسج عبد الحميد علي (بابكر) علاقة متينة مع ناظر عموم دار المسيرية بابو نمر علي الجلة، حفيد القادة المهدويين، وملازم الخليفة الشهير أب جكة

كان الناظر بابو نمر شخصية ذات حضور طاغٍ، يجمع بين روح الإدارة الأهلية ووعي السياسة الحديثة، وكان من أوائل من شجعوا أبناء المنطقة على العمل في السكة حديد ومصنع الألبان، بإعتبارهما رمزين للتقدم المدني.

وعندما قرر الحزب الشيوعي نقل “بابكر” إلى الجزيرة، كتب الناظر رسالة إحتجاج إلى الشهيد عبد الخالق محجوب مطالباً ببقائه في بابنوسة، لما أحدثه من حراك نقابي وثقافي في المنطقة

وبالفعل، أسهم بابكر في بناء فروع للحزب، وتأسيس نقابات وهيئات ديمقراطية، وأشرف على إعداد أول متفرغ حزبي من أبناء المنطقة، حامد محمد جاد الله (ود أب حردود)، الذي إبتُعث لاحقاً إلى موسكو للدراسة في جامعة العمال، ليصبح أحد قيادات الحزب لاحقاً، طبقاً لما رواه عدد من أبناء الحزب الشيوعي.

مدينة الروح

 

كانت بابنوسة نموذجاً مصغراً للمدنية السودانية في أبهى صورها

ففيها تعايش المسجد والكنيسة، والمصنع والسينما، والنقابة والفرقة الموسيقية مدينة تضج بالحياة

مصنع الألبان الذي شكّل رمزاً للإنتاج،

سكة الحديد التي ربطت الأقاليم،

سينما الخواجة التي عرضت أفلاماً مصرية وهندية،

بقالة عم عيدو جورج وابنه نبيل،

دكان الترزي ماريو مسكين النقابي الجنوبي،

دار الرياضة التي شهدت تنافس الأهلي والشبيبة والترس،

ومكتبتا مصطفى الصديق والجماهير اللتان كانتا منارات للقراءة في زمن كانت الثقافة جزءاً من نبض الناس

في المساء، كانت صافرة القطار تمتزج بصوت المذياع وعبق القهوة، في مشهد تختصره عبارة واحدة: بابنوسة كانت مدينة تعرف نفسها، ويعرفها أهلها.

الزمن الجميل

يروي المهندس هاشم محمد أحمد، أحد أشهر مديري القسم الغربي للسكة حديد، في كتابه ” حياتي وأسرار الأشباح” أنه حين زار الناظر بابو نمر في منزله الشهير، وجده يجلس تحت شجرته المعروفة، يستمع إلى أغنية أم كلثوم “الأطلال”، يردد معها:

هل رأى الحب سُكارى مثلنا؟

كان ذلك المشهد كافياً ليدرك الزائر أن المدنية ليست في البنايات وحدها، بل في الذوق، والحوار، والقدرة على الجمع بين الأصالة والحداثة.

الذاكرة الوطنية

إرتبط إسم المدينة أيضاً بأسماء كبرى في التاريخ السوداني الحديث

فالعلاقة التي جمعت الناظر بابو نمر بالناظر دينق مجوك، وثّقها البروفيسور فرانسيس دينق في كتابيه، مشيراً إلى أن بابو نمر قال له ذات مرة إن “دية المرأة عند المسيرية تساوي دية الرجل”، في موقف تقدمي أثار إعجاب فاطنة أحمد إبراهيم التي ذكرت ذلك لاحقاً في حوار صحفي.

أما د. منصور خالد فقد روى في مذكراته أنه خلال زيارة أجراها الرئيس جعفر نميري إلى المجلد في بداية حكم مايو، جلس إلى جوار الناظر بابو نمر، بينما كان الشباب في الخارج يهتفون بسقوط الإدارة الأهلية

حينها، التفت الناظر إلى منصور خالد قائلاً في هدوء

“الإدارة الأهلية سقطت يوم دخل القطر بابنوسة”

كانت تلك الجملة تلخيصاً لبداية التحول من البداوة إلى المدنية، من الصوت القبلي إلى الوعي العام.

الخراب الأخير

لكن كل تلك الحكايات اليوم تبدو كأنها تنتمي إلى زمن آخر

فقد دخلت الطائرات المسيرة والقذائف إلى سماء بابنوسة، وحوّلت شوارعها وسككها الحديدية إلى ساحات حرب.

انطفأت المصانع، صمتت السينما، وتحوّلت بيوت أهلها إلى أنقاض أو ملاجئ

نزح أكثر من مئتي ألف إنسان من المدينة إلى المجهول، تاركين وراءهم ذاكرة تفيض بالحنين.

لم تعد بابنوسة مركزاً للسكك الحديدية، ولا ملتقى للثقافات، بل صارت عنواناً لوجع أمةٍ تُهدم مدنها كما تُهدم أحلامها.

حين تسقط المدنية

بابنوسة ليست مجرد مدينة في غرب السودان، إنها رمز لفكرة

فكرة أن المدنية يمكن أن تزدهر في قلب الريف، وأن الحداثة يمكن أن تتنفس بين القباب والحقول والمصانع

لكن الحرب أطفأت هذا الحلم، كما أطفأت من قبل أحلام مدن أخرى كانت تنبض بالحياة

الآن، لا تُسمع في بابنوسة صافرة قطار، ولا تُرى أضواء السينما، ولا يعلو صوت أم كلثوم من “البيك أب” القديم.

كل ما تبقى هو الغبار، وذاكرة تُروى على لسان من عاشوا زمنها الجميل، كأنها أسطورة منسية عن مدينة كانت ذات يوم قلب السودان المدني النابض.

ويبقى السؤال الموجع معلقاً فوق الركام

هل يمكن أن تعود بابنوسة يوماً إلى الحياة، أم أن القطار الذي دخلها في ستينيات القرن الماضي كان آخر ما حمل إليها معنى المدنية… قبل أن يغادر بلا عودة؟

Exit mobile version