كرة القدم السودانية في المنفى: حين تهاجر اللعبة ويبقى الشغف

 

بقلم  :مواهب عبد اللطيف – The East African

في السودان، لم تكن كرة القدم يومًا مجرد لعبة. كانت نبضًا يوحّد المدن المتنافسة، ولغة مشتركة بين الفقراء والحالمين، وملاذاً يهرب إليه الشباب من قسوة الواقع. كانت رمزاً للانتماء، ومتنفساً للأمل.

لكن حين اندلعت الحرب في أبريل/نيسان 2023، تحولت هذه اللعبة التي جمعت السودانيين لعقود إلى ضحية أخرى من ضحايا النزاع. تفرقت الجماهير، أُغلقت الملاعب، وغادرت الفرق أرض الوطن بحثًا عن النجاة. وهكذا، بدأت قصة كرة القدم السودانية في المنفى قصة عن الصمود والهوية والروح التي ترفض الموت حتى حين ينهار كل شيء.

مع اشتداد المعارك وتغير خطوط النار، وجدت كبرى الأندية السودانية نفسها أمام قرار غير مسبوق في تاريخ الرياضة الأفريقية: أن تحزم قمصانها ومعداتها، وتغادر البلاد ليس إلى البطولات القارية، بل إلى المنفى.

اليوم، يخوض الهلال والمريخ موسمهما في رواندا، في مشهد يلخص كيف أصبحت كرة القدم تسير حيث يسير النزوح السوداني.في محاولةً الحفاظ على بقائها وعلى نبض جمهورها المشتت.

ورغم هذا التشريد، بقي المنتخب الوطني عنوانًا للأمل. فقد بلغ السودان نصف نهائي بطولة “الشان” في شرق أفريقيا، كما ضمن تأهله إلى نهائيات كأس الأمم الأفريقية المقبلة في المغرب. حيث تمثل لحظة فخر في زمن القهر، وتذكّر السودانيين بأن شيئًا من مجدهم ما زال حيًّا.

لكن خلف تلك اللحظات المضيئة، يقبع واقع مظلم. آلاف العاملين في منظومة كرة القدم من مدربين وإداريين ولاعبين وباعة في الملاعب  فقدوا مصادر رزقهم. كان الاقتصاد الرياضي أحد القطاعات القليلة في السودان القادرة على النمو الذاتي والاستدامة خارج يد الدولة، لكن الحرب نسفت ذلك كله في لحظة.

الضرر الأكبر ربما طال فئة الناشئين. قبل الحرب، كان السودان يخطو خطوات واعدة لبناء منظومة أكاديميات جديدة تُخرّج جيلاً من المواهب القادرة على الاحتراف في شمال أفريقيا والخليج وأوروبا. غير أن هذا المشروع توقف تمامًا، وتلاشت معه أحلام مئات الفتيان الذين وجدوا أنفسهم بلا ملاعب ولا سجلات ولا فرص.

هؤلاء ليسوا فقط مشردين من مدنهم، بل من مستقبلهم أيضًا. توقفت رحلتهم نحو الاحتراف قبل أن تبدأ. جيل كامل ضاع صوته في ضجيج المدافع، وسيحمل ندوب هذا التوقف طويلاً بعد أن تصمت البنادق.

وفي خضم الفوضى، تواصل كرة القدم أداء دورها الرمزي. وسط المجازر والمجاعات في دارفور، لا يزال كثير من السودانيين يجدون في متابعة فرقهم المهجرة نافذة صغيرة على ما تبقى من الحياة الطبيعية. حين يشاهد أحد المشجعين ناديه وهو يلعب في رواندا أو موريتانيا عبر بث متقطع وضعيف، فإنه لا يشاهد مجرد مباراة، بل يشاهد وطنًا يحاول البقاء.

كتب أحد اللاعبين على فيسبوك:”غادرت السودان لاعب كرة قدم… وأصبحت فجأة لاجئًا أحمل حذائي في كيس بلاستيكي.”

قصته ليست استثناءً. فِرق بأكملها تحولت إلى مجموعات نازحة، تحمل معها أطقمها وشعاراتها كآخر رموز الانتماء. فقدت منازلها وميادينها وجماهيرها، لكنها تمسكت بما بقي: هوية كرة القدم.

شهدت القارة الأفريقية حروبًا كثيرة عطلت البطولات وأغلقت الملاعب، لكن ما يحدث في السودان اليوم غير مسبوق. إنها المرة الأولى التي يُستبدل فيها دوري وطني كامل بمشاركات اضطرارية في دوريات أجنبية، فقط لأن الوطن نفسه لم يعد صالحًا للعب.

والسؤال الآن لم يعد: أين ستلعب الأندية الموسم المقبل؟ بل: متى سيستعيد السودان أرضًا يمكن أن يُلعب عليها؟

حتى لو توقفت الحرب غداً، فإن إعادة بناء الملاعب والأكاديميات والبنية الاقتصادية للرعاية وحقوق البث ستحتاج إلى سنوات طويلة. فالحرب لم تدمّر فقط المدرجات والعشب الأخضر، بل حطمت سلسلة التطور التي تبقي كرة القدم حيّة وتنافسية ومستدامة.

ومع ذلك، تبقى كرة القدم السودانية شاهدة على إرث لا يموت. لعبة خرجت من تحت الركام، تحمل في قمصانها وأحذيتها وأهازيج جماهيرها ما تبقى من ذاكرة وطن , وطن ربما ضاع، لكنه لم يفقد بعد روحه.

Exit mobile version