الهدنة الإنسانية في السودان: بين حجج الرفض ومنطق القبول

بقلم : د. عصام عباس
خبير تكنولوجيا المعلومات وتحليل البيانات
issamabbas61@yahoo.com
أيقظت الحرب الدائرة في السودان ، منذ إندلاعها منتصف إبريل 2023، ضمير العالم ودفعته للسعي لايجاد حل لأسوأ أزمة إنسانية يشهدها العالم في السنوات الأخيرة. فقد مارست الرباعية الدولية ( الولايات المتحدة، المملكة العربية السعودية، مصر، والإمارات) وإلي جانبهم الاتحاد الأفريقي والأوربي وعدد من الدول المؤثرة، ضغوطاً متواصلة على طرفي الحرب لإجبارهم على القبول بهدنة إنسانية لإنقاذ حياة ملايين السودانيين المتاثرين بالصراع. وبرغم أن الهدنة الإنسانية أضحت على رأس مطالب المجتمع المدني والدولي حالياً، إلا أنها تواجه برفض مستمر من بعض الأطراف الفاعلة في هذه الحرب بحجج يرونها منطقية ويطالبون الأخذ بها. هذا المقال يحلل ويناقش أبرز هذه الحجج ويقدم تفنيداً منطقياً لها.
ماهي مرتكزات حجج دعاة رفض الهدنة
تستند مواقف الرافضين للهدنة الإنسانية في السودان إلى مزيج من الهواجس الأمنية والسياسية التي ترى في أي وقف لإطلاق النار خطوة خطرة تهدد ما يسمونه “الموقف الوطني المتماسك”. هؤلاء يعتبرون أن الحديث عن هدنة في ظل إستمرار إحتلال المدن وإنتهاك السيادة هو تسرّع في التنازل قبل إكتمال النصر، ويرون أن التجارب السابقة أظهرت أن الهدن غالباً ما تُستغل من الطرف الآخر لإعادة التموضع وتعزيز قوته. كما يربط البعض بين الدعوات الدولية للهدنة ومحاولات “التدخل الأجنبي” أو “إملاء الحلول” من الخارج. تتقاطع هذه المبررات في جوهرها حول فكرة واحدة: أن الهدنة تضعف الموقف العسكري والسياسي وتمنح الخصم فرصة جديدة للبقاء. لكن هذه الحجج، رغم ما تحمله من ظاهر المنطق، تحتاج إلى تحليل موضوعي في ضوء الوقائع الإنسانية الكارثية التي يعيشها السودان اليوم.
الحجة الأولى: إعادة التموضع وتعزيز القدرات العسكرية
تُعد هذه الحجة هي الأكثر تداولاً بين دعاة الإستمرار في الحرب بلا توقف. يرى الرافضون، بناءً على تجارب هدن سابقة لم تصمد، أن الدعم السريع سيستغل وقف إطلاق النار لنقل الإمدادات اللوجستية، إعادة تنظيم الصفوف، وتقوية المواقع العسكرية في المناطق التي تمكن من السيطرة عليها. وبدلاً من أن تكون الهدنة نافذة للإغاثة، تتحول إلى فرصة لتعزيز الموقف العسكري، مما يُطيل أمد الصراع ويجعل عودة القتال أكثر عنفاً.
تبدو هذه الحجة مقبولة جزئياً من حيث المبدأ، إذ تؤكد التجارب السابقة أن بعض الهدن شهدت بالفعل خروقات متبادلة وتحركات عسكرية وإعادة تموضع من الطرفين، في ظل غياب آليات رقابة فعالة ومراقبين مستقلين، مما جعل الالتزام هشّاً وقصير الأجل. غير أن الإستناد إلى هذه الحجة في المرحلة الراهنة يعكس قراءة غير دقيقة لواقع الحرب الحالي. فالسياق الميداني تغيّر جذرياً عمّا كان عليه في بدايات الصراع، إذ لم تعد المعارك تدور داخل المدن المأهولة أو في مناطق مختلطة السيطرة، بل اتخذت الحرب طابعاً جغرافياً أكثر وضوحاً وتمايزاً.
فاليوم، تتمركز قوات الدعم السريع في معظم إقليم دارفور وغرب كردفان وأجزاء من شمال وجنوب كردفان ومنطقة المثلث على الحدود الليبية، بينما يفرض الجيش سيطرته على بقية ولايات البلاد. هذا الواقع يجعل خطوط الإمداد مفتوحة للطرفين حتى دون هدنة، كما أن الطبيعة المكشوفة لساحات القتال تسمح بسهولة رصد أي تحركات أو إعادة انتشار مخالفة لشروط الاتفاق. وبذلك، تنتفي الذريعة القائلة بأن الهدنة تمنح أحد الطرفين ميزة ميدانية حاسمة، وتبقى الحاجة الإنسانية الملحّة هي المبرر الأقوى للمضي في ترتيبات وقف إطلاق النار.
من حق الجيش أن يطرح المخاوف الأمنية المشروعة ولكن من الضروي أن يتفاوض حولها بقلب مفتوح بنية إزالة ما يترتب عليها من مخاطر أمنية والتركيز على تغليب أولوية إنقاذ حياة المدنيين في ظل هذه الكارثة الإنسانية غير المسبوقة. فبدلاً من رفض الهدنة بالكامل، يمكن طرح الضمانات الدولية التي تحول دون إستغلال الهدنة لأغراض حربية وعسكرية. هنا يمكن مناقشة إدراج آليات رقابة صارمة ومتقدمة ، ووجود مراقبين عسكريين ومدنيين على الأرض، وتحديد ممرات إنسانية واضحة لا يُسمح فيها بأي نشاط عسكري. في هذه الحالة، ربما يبقى الخطر قائماً، لكن التكلفة الإنسانية لرفض الهدنة تتجاوز بكثير مخاطر إستغلالها.
الحجة الثانية: شرعنة الميليشيا
يقول بعض الرافضين إن الجلوس مع قوات الدعم السريع أو الاعتراف بها ضمن اتفاق هدنة يمنحها شرعية سياسية وأخلاقية، ما يُعتبر مكافأة على التمرد والانتهاكات وتقويض هيبة الدولة، خاصة لدى من يرى الصراع من منظور «تمرد ضد مؤسسة وطنية».
هذه الحجة فيها خلط بين المسار الإنساني والسياسي. السودان الان يعيش في أزمة إنسانية والجهد موجه بتركيز نحو الإغاثة، وحماية المدنيين وغيرها من مطلوبات العون الإنساني. لذلك من الضروري والهام جدا التفريق بين المسارين الإنساني والسياسى بحسبان ان الهدنة لا تناقش قضية الاعتراف بالشرعية من عدمه. الامتناع عن الهدنة يعني استمرار القصف والمجاعة والنزوح — أي معاقبة المدنيين لا الفاعلين المسلحين وهنا تنشأ ضرورة رسم خطوط واضحة بين الإعتراف القانوني والمشاركة في الترتيبات الإنسانية.
إذن، يمكن هندسة هدنة محددة المهام والأهداف والوسائل لا تناقش قضية الإعتراف أو منح الشرعية، وإن كانت تمهد لذلك، بقدر ماهي عملية إنسانية تحت مظلة دولية واضحة، وأن تتضمّن فقرة صريحة الا يُفسَّر هذا التفاهم كاعتراف سياسي بأي طرف. من الضروري النظر الى الهدنة الإنسانية كتدبير مؤقت ومحدود زمنياً، هدفها الوحيد هو إيصال الغذاء والدواء والإجلاء الآمن للمدنيين. لا يمكن ربط هذا التدبير الطارئ بالشروط النهائية التي تخص اتفاق السلام الشامل أو ترتيبات ما بعد الحرب. مفاوضات الإعتراف ونزع السلاح تنتمي إلى المسار السياسي الذي سيأتي لاحقا .
الحجة الثالثة: إضعاف الروح المعنوية وتقويض الاستنفار
يروج رافضو الهدنة انها قد تُضعف العزيمة القتالية لدى القوات وتفقدها “زخم النصر” الذي صنعه اعلام الحرب. كما يُنظر إليها كجزء من ضغط دولي يُراد منه التدخل في الشأن الداخلي أو فرض حلول لا تتوافق مع الأهداف الوطنية، حسب زعمهم، مما يقوّض وحدة الصف خلف الجيش والمشتركة ويفتح الباب أمام التشكيك في المسار العسكري.
إن القول بأن الهدنة تضعف الروح المعنوية يتجاهل أن استمرار القتال يُهدد بانهيار الدولة بالكامل. الملايين من السودانيين يواجهون المجاعة، وانتشار الأوبئة الفتاكة، وتدمير البنية التحتية الأساسية. في ظل هذه الظروف، يصبح الحفاظ على أرواح الشعب هو الهدف الوطني الأعلى. الهدنة لا تعني الاستسلام، بل غايتها إنقاذ الأرواح التي تتهددها المجاعة والصراع المميت. أي روح معنوية تلك التي يراد الحفاظ عليها باشلاء ممزقة، واي زخم نصر ذلك الذي ينشدونه من بين انين المرضى ودموع الأطفال الجوعى وانكسار الشيوخ الضعفاء.
الحجة الرابعة: ربط الهدنة بتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية
يرى أنصار خيار الحسم العسكري أن أي هدنة “غير مشروطة” تمثل تهديداً لسيادة الدولة، لأنها — من وجهة نظرهم — تمنح شرعية للدعم السريع وتُضعف موقف الحكومة التي يرعاها الجيش. لذلك يشترطون قبل أي وقف لإطلاق النار تحقيق أهداف عسكرية وسياسية مسبقة، مثل انسحاب قوات الدعم السريع من المدن، وتجميعها في معسكرات، وتسليم الأسلحة الثقيلة، بل أحياناً إخضاعها للمساءلة الكاملة قبل الحديث عن أي ترتيبات إنسانية أو سياسية. هذه الرؤية تضع شروط النصر كمدخل للسلام، وليس السلام كطريق للنصر الحقيقي.
من الناحية النظرية، تبدو هذه الحجة منطقية: فكيف يمكن القبول بوقف إطلاق النار بينما تحتل قوة متمردة ولايات ومدن كبرى، وتواصل انتهاكاتها؟ وكيف يمكن ضمان سيادة الدولة في ظل وجود سلطتين متنازعتين على الأرض؟ لكن هذا المنطق يصطدم بواقع ميداني وإنساني مختلف تمامًا: الحرب طال أمدها دون أن يحقق أي طرف حسماً عسكرياً فعلياً، ومناطق واسعة من البلاد تعيش فراغاً إدارياً وأمنياً، وتتحول يوماً بعد آخر إلى ساحات للفوضى. الإقتصاد ينهار وأصبحت الخدمات الأساسية — من غذاء وصحة وتعليم —في حكم المعدومة. في مثل هذا السياق، يصبح التمسك بشرط الحسم العسكري قبل الهدنة نوعاً من المغالاة غير المنطقية. فالدولة نفسها، التي يراد إستعادة سيادتها الكاملة، مهددة بالانهيار المؤسسي نتيجة إستمرار الحرب.
إن تصوير الهدنة كـ«تنازل» هو مغالطة غير مبررة. فالهدنة — حين تكون ضمن إطار واضح وتحت رقابة دولية شفافة — هي وسيلة لإعادة ترتيب أوضاع الدولة لا تقويضها.
أولاً، الهدنة الإنسانية لا تمنح شرعية لأحد، بل تنقل المعركة من ساحة السلاح إلى ساحة السياسة والقانون، وهي الساحة التي يملك فيها الجيش والدولة الأفضلية من حيث الشرعية الدولية والمؤسسية.
ثانيا، إستمرار الحرب بحجة «إستعادة السيادة» هو في الواقع ما يهدد السيادة نفسها، إذ يفتح الباب أمام التدخلات الأجنبية والإقتتال الأهلي والإنقسام الجهوي.
الخلاصة: نحو رؤية واقعية
أختم بالقول إن الحرب في السودان لم تعد صراعاً على السلطة فحسب، بل صراع على بقاء الدولة نفسها. من المؤسف التمادي في رفض الهدنة الإنسانية تحت ذريعة حجج تفتقد الى المنطق الراسخ أو لمخاوف أمنية من الممكن إيجاد الحلول لها. الهدنة ليست غاية نهائية، بل خطوة أولية لوقف النزيف وتهيئة المناخ لحوار سياسي حقيقي. رفضها يعني إستمرار الإنهيار وتعميق معاناة المدنيين، بينما قبولها وفق ترتيبات دقيقة ورقابة صارمة يمكن أن يكون نقطة تحول تاريخية نحو وقف الحرب وإعادة بناء السودان على أسس مدنية عادلة.
إن الشجاعة الحقيقية اليوم ليست في إطالة امد القتال، بل في الجرأة على إنهاء الحرب.





