تكشفت في الجلسة الخاصة لمجلس حقوق الإنسان بجنيف حقائق صادمة حول موقف حكومة بورتسودان من التحقيقات المتعلقة بجرائم الفاشر. فبينما كان العالم يتابع بدهشة حجم الفظائع المرتكبة هناك، إختارت الحكومة أن تتحفظ على أربع من أهم فقرات القرار الدولي، وهي الفقرات 14 و15 و16 و17، التي تشكل العمود الفقري لمسار الحقيقة والمساءلة.
فالفقرة 14 تطالب بتحقيق عاجل في الإنتهاكات التي شهدتها الفاشر، والفقرة 15 تدعو إلى تحديد المسؤولين عن تلك الجرائم لضمان محاسبتهم، فيما تشدد الفقرة 16 على ضرورة التنسيق بين آليات التحقيق الدولية والوطنية، وتلزم الفقرة 17 المفوضية السامية بتقديم تحديثات وتقارير دورية حول الأوضاع هناك. ورغم أن هذه البنود تمثل جوهر مطلب الضحايا والعالم، فإن حكومة بورتسودان وقفت ضدها جميعاً.
هذا الموقف المتناقض يطرح سؤالاً مشروعاً: كيف تطالب الحكومة – في بيانها الصادر في 27 أكتوبر – المجتمع الدولي بإتخاذ موقف حاسم تجاه ما وصفته بالإبادة الجماعية في الفاشر، ثم ترفض في جنيف أبسط الإجراءات التي تحقق هذا الهدف؟ وكيف يدعو بيان القوات المسلحة في 28 أكتوبر إلى “تحريك آليات المساءلة الدولية” بينما يعطل ممثلو الحكومة تلك الآليات ذاتها في مجلس حقوق الإنسان؟
إن تحفظات الحكومة لا تعكس مجرد سوء تقدير سياسي، بل تكشف عن إصرار على تعطيل التحقيق ومنع الحقيقة من الوصول إلى العالم. فرفض الفقرات الأربع يعني عملياً منع بعثة تقصي الحقائق من دخول البلاد، وقطع الطريق أمام أي جهد دولي يهدف لمحاسبة الجناة، ولو كانوا من داخل مؤسسات الدولة نفسها.
إن هذا التخبط لا يمكن فصله عن أزمة الشرعية التي تعيشها سلطة بورتسودان، فهي سلطة تتأرجح بين خطاب شعبوي يستثمر في الدماء، وممارسة دبلوماسية مرتبكة تخشى المساءلة. وفي الوقت الذي تتطلع فيه السودانيات والسودانيون إلى تحقيق يضع نهاية لدوامة الإفلات من العقاب، تصر الحكومة على إغلاق الأبواب أمام العدالة، وتقديم صورة مرتبكة أمام المجتمع الدولي.
التاريخ لا يرحم. وما جرى في جنيف لن يُسقط من الذاكرة. فالموقف الذي كان ينبغي أن ينحاز إلى الضحايا، إنحاز – بكل أسف – إلى التستر والمماطلة. والمسؤولية الأخلاقية والسياسية تقتضي فضح هذا التناقض، والضغط من أجل فتح الطريق أمام العدالة، مهما حاولت السلطة الحالية إغلاقه.