نقد الذات والنفس – القوى المدنية منّا وفينا  ولنسمع كلام  البيبكينا

(لا وقت لأزمة الثقة)

بقلم : وئام كمال الدين

كل يومٍ تستمر فيه حرب الخامس عشر من أبريل في السودان، يزداد فيه الغبن، وتعلو أصوات القبلية والعنصرية وخطابات الكراهية، وتبهت صورة السودان الموحّد. فالحرب التي إشتعلت بين عضوي المجلس العسكري لم تتوقف عند حدود الصراع العسكري، بل تحوّرت لتستقطب عبر الفزع والإستنفار مجتمعاتٍ محلية تبحث كلٌ منها عن مصلحتها و ولائها و إنتقامها. ولم يقف الأمر عند ذلك؛ بل طال الإنقسام حتى القوى المدنية المصطفّة خلف السلام، فإنقسمت بين مؤيد للدعم السريع وجزء من حكومته، وبين قوى مدنية صامدة على مبدأ عدم الإنحياز للحرب والضرورة الأخلاقية والسياسية للإنحياز للسلام.

ولم يكن هذا الإنقسام جديدًا؛ فالخلافات داخل القوى المدنية قديمة. فمنذ مؤتمر الخريجين الذي لعب دورًا مهمًا في رحيل المستعمر، ظلّ إختلاف الرؤى السياسية يؤدي إلى الإنقسامات. وفي التاريخ القريب، ومع نجاح ثورة ديسمبر المجيدة، وما إن أصبحت أحلام السودانيين قريبة المنال، حتى شُقّ الصف. إنقسم تجمع المهنيين، أيقونة ديسمبر وصاحب الدور البارز في نجاحها، وخرج الحزب الشيوعي من قوى الحرية والتغيير، وإتسع الشرخ بين القوى السياسية ولجان المقاومة. تلك التباينات كلّفت الثمن من حجم الكتلة الحرجة التي صنعتها الثورة، وزادت حدة الانقسام حتى بلغ درجة تخوين القوى المدنية نفسها، وكل من يطالب بوقف الحرب.

إذن، هي أزمة ثقة.

لعب فيها النظام البائد لعبته، لكنه قبل ذلك خطأ المدنيين الذين لم يسدوا ثغرات الإنقسام، حتى تسرب الماء من كل فج. والحقيقة أن ما حدث قبل الحرب مفهوم؛ فالجدل والسرديات تختلف، والتنافس السياسي في ذاته أمرٌ صحي، بل يؤدي—حين يبلغ ذروته—إلى تقديم مصلحة الشعب سعياً لتوسيع قاعدة المؤيدين. إنه تنافس يصب في مصلحة البلاد ويُنتج برامج تسعى لكسب ثقة المواطن وتعزيز صوته.

لكن المعركة اليوم ليست بين الرؤى السياسية، بل بين الوحدة والانقسام، بين أن تكون البلاد أو ألا تكون، بين الحكم المدني وعودة الحكم العسكري.

ألا يتطلّب ذلك من جميع المدنيين أن يضعوا خلافاتهم جانبًا لإنقاذ بلادهم؟

ألا يتطلب الوضع الراهن “هدنة” مدنية توقف الخلافات وأن نستفيد من تنوّع القوى المدنية—الأحزاب، والمجتمع المدني، والنقابات—لتوسيع الفضاء المدني بدلًا من حالة العسكرة والتجييش؟

أليس أولى بالمجتمع المدني أن يمارس مهنيته في هذه الحرب، التي تحتاج إلى حسن إدارة الأزمة الإنسانية، وحكمة تنظيم العون الإنساني والطوعي، ومحاربة خطاب الكراهية، ونبذ العنصرية، والتركيز على النساء اللواتي لاقين ما لاقين؟ أليس الوقت مناسبًا أيضًا لينشغل الساسة بمعركتهم السياسية، وأن تعوّض القوى المدنية نقص السلاح بتقدّم سياسي وأخلاقي يليق بثورة رفعت شعار الحرية والسلام والعدالة؟

أليس هذا هو الزمن المناسب لتتوحّد فيه الأصوات المطلبية، وتستعيد النقابات دورها، وتطوّر فيه الحركة النسوية آلياتها وشراكاتها الداخلية والخارجية، وأن تعمل دون توقف من أجل تمثيل عادل؟

أليس الأولى أن يتوقف التضاد والتنافس المُضر داخل الكتلة المدنية، والذي يصل أحيانًا إلى حدّ يعطّل الوصول إلى غاية موحدة، بينما لدى الجميع من الواجبات غير المنجزة ما يشغله عن رفع رأسه والنظر إلى طاولة أخيه؟

لقد حان الوقت لتعيد القوى المدنية ترتيب أولوياتها، وأن نستفيد من تنوعها في عملٍ منسق لا يضرّ باستقلاليتها ومهنيتها، بل يستثمر تعدد آلياتها لخدمة أهداف السلام والديمقراطية والتنمية. حان الوقت لتنشغل القوى السياسية بتطوير رؤاها، ولتفهم أنها إن لم تفعل، فقد تجد نفسها خارج المعادلة السياسية في أي اتفاق قبل أو بعد وقف الحرب، تاركةً الساحة للعسكرة التي سيتضرر منها الجميع.

كما حان الوقت للمجتمع المدني أن يمارس مهنيته، وأن يستجمع أطرافه، وأن ينظر إلى الكارثة الإنسانية والاجتماعية بعين الدارس والمحلل والناقد، الذي يخلق حلولًا ورؤى تضع سلامة المدنيين وتطوير آليات العون الإنساني والتغيير الاجتماعي في مقدمة أولوياته قبل وأثناء وبعد الأزمة.

الوقت الآن هو وقت تطوير مفهوم توحيد الجهود من أجل السلام والحرية والعدالة، ولأن يفهم الجميع أن كل طرف يكمل الآخر، وأنه لا سبيل للخروج من هذه الأزمة إلى دولة القانون والمواطنة والعدالة، وإلى مدنية الحكم وديمقراطيته، دون التكاتف لدعم السلام ونبذ الخلافات وعدم تغوّل أي طرف على الآخر.

صحيح أن النظام البائد حاول أن يشيطن التجربة الانتقالية ويزرع الشكوك ونظريات المؤامرة، وأن القوى المدنية بجميع أطيافها دفعت ثمن الانقسامات والتحالفات المتصدعة والرموز المتناحرة، مما أضعف المدنيين من الداخل وحاربهم من الخارج. لكن السماح لهذه الهواجس بأن تُعمّق التنافس وتكسر القوى المدنية المنحازة للسلام هو خطأ سيدفع الجميع ثمنه؛ لأنه يعطي الفرصة للعدو ليعيد هندسة المشهد لصالحه.

فالعدو واحد: 

يسلب إرادة الشعب، ويستبدل قومية البلاد بعقيدة الحرب، ويسرق صوت السلام تحت شعارات “بل بس” و”الجغم بس”، ويغذّي الشكوك بيننا ليُخرب بيت السودان بأيدي أبنائه. ويستدعي مقولة أرسطو للإغريق في استعمارهم لبرقة وقرطاج:

“فتّتوا القوم قبائل وجماعات… واذيبوا كيانهم في كيان عقيدتكم.”

اليوم هو وقت الوحدة خلف وقف الحرب وتحقيق سلام عادل يقود إلى حل سياسي يستصحب شعارات ثورة ديسمبر ولا يتجاوز رؤية الشباب التي لا تزال جذوتها متقدة.

وسط كل هذا، تفتح كنداكات السودان بابًا للأمل؛ يوحّدن أصواتهن، يجمعن نِضالاتهن النسوية المؤمنة بالسلام، ويتوافقن على وقف الحرب، ويضعن أولوياتهن بوضوح، ويدشّنَّ شبكة النساء السودانيات—شبكة حياةٍ تسمو فوق الخلافات، تُوقف الحرب، وتُحقق السلام، وتضع مطالب النساء في الحرية والعدالة والتمثيل العادل في مقدمة الأولويات، وتقول إن ذلك ممكن.

والمدنيون… هم منّا وفينا.

ولا وقت لأزمة ثقة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى