سبعون عامًا في حضرة “جيش الهَنا”… ووطن بلا سلام

بقلم : إبراهيم هبّاني
منذ أن خرج السودان إلى الدنيا كدولة مستقلة، حلم الناس بجيش يحمي الحدود، ويرعى الدستور، ويصون القسم. لكن الذي حدث – من عبود إلى البرهان – هو أن الجيش لم يحرس سوى حقه التاريخي في الوصول إلى القصر كلما ضاقت عليه السياسة، أو اتسع على الناس هواء الحرية.
القصة طويلة لكنها بسيطة:
كلما ارتفع صوت الشعب، ظهر بيان رقم واحد.
وكلما اشتد الحديث عن الدستور، ظهر قائد جديد لا يطيق كلمة “مدني – ملكي”.
وكلما سأل الناس عن الحدود، كان الجنرال مشغولًا بحدود سلطته لا بحدود وطنه.
بدأ المشهد مع عبود، ثم انفجر مع نميري الذي بدأ يسارياً وانتهى في حضن الإسلاميين. وبعده جاء سوار الذهب، الذي رُسمت حوله هالة زائفة من “النقاء الوطني”، بينما كان عمليًا يمهّد الأرض للحركة الإسلامية. فهو الذي قاد المسيرة الإخوانية الخارجة من موقف جاكسون دفاعًا عن نميري، وهو القائد العام الفعلي للجيش في غياب الرئيس. ثم أصبح لاحقًا رئيس منظمة الدعوة الإسلامية، وهي المؤسسة التي قُرئ فيها بيان انقلاب عمر البشير عام 1989. كان ذلك وحده كافيًا لفهم أين زُرعت جذور الانقلاب قبل أن ينضج.
ولم تكن مأساة ضباط رمضان عام 1990 مجرد جريمة سياسية، بل مثالًا واضحًا على طبيعة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والإخوان. فقد تلقّى الضباط الثمانية والعشرون تطمينات مباشرة بالحماية من سوار الذهب نفسه — الذي كانت الحركة الإسلامية تقدمه آنذاك كـ”شخصية وطنية محايدة ومتوافق عليها”. وبمجرد أن سلّم الضباط أنفسهم بناءً على هذا التعهّد، تبيّن أن الضمانات كانت مجرد غطاء لعملية تصفية سريعة رتبتها حكومة الإسلاميين. ما بدا التزامًا بالشرف العسكري تحوّل، عمليًا، إلى دليل إضافي على استعداد الحركة الإسلامية للتخلّي عن وعودها حين تقتضي مصلحتها ذلك.
حوّل انقلاب 1989 الجيش إلى أداة أيديولوجية بالكامل. ثلاثون عامًا من التمكين، واستبدال العقيدة العسكرية بعقيدة تنظيم سياسي، وإعادة تشكيل المؤسسة لتصبح حارسًا لمشروع الإسلاميين لا للوطن.
وعندما حاولت ثورة ديسمبر فتح الباب نحو دولة مدنية، خرجت اللجنة الأمنية، التي ورثها الجيش عن البشير، لتغلقه من جديد بانقلاب 2021، ثم بالحرب الكارثية عام 2023 التي مزّقت ما تبقى من البلاد.
وحين اعتقد السودانيون أن الحرب ربما تكون آخر الدروس، جاء خطاب البرهان ليطمئن الحركة الإسلامية بأن “لا ريح ستزعج منامهم”، بينما ملايين السودانيين ينامون في الخلاء بلا سقف، وبلا طعام، وبلا حدود آمنة، وبلا دولة تحميهم.
خطاب يعلن أن حماية المشروع الإخواني أولى من حماية الوطن، وأن القسم والدستور مجرد واجهات لا تلزم الجنرالات حين تتعارض مع حساباتهم.
وفي النهاية، لم تعد المشكلة في الانقلابات نفسها، بل في أن قادة المؤسسة العسكرية يقسمون على حماية الوطن… ثم يحمون سلطتهم.
يحلفون على احترام الدستور… ثم يمزقونه عند أول بيان.
يقسمون على صون الحدود… ثم يتركونها! بينما يحرسون حدود نفوذهم.
ولذلك نقول، بمرارة لا تخلو من سخرية:
جيشنا… جيش الهناء الحارس مالنا ودمنا…
لكن لا دستور اكتمل، ولا حدود استقرت، ولا قسم صُدّق، ولا وطن نجا.
وإن شئنا الحقيقة مجردة من أي تجميل:
يقسمون بالله العظيم حماية الوطن…
فلا الوطن حُمي، ولا الله خُشي، ولا القسم صُدّق.





