اللحظـة المناسبـة

لوهلة، وتحت وطأة الجرائم التي قضت مضجع الجميع، تبدو مأساة الفاشر كما لو أنها “القندول الشنقل الريكة” تحت أقدام مرتكبي الفظائع والانتهاكات.

 فجأة يستيقظ المجتمع الدولي من سباته العميق؛ ليدرك عواقب التجاهل ويدفع إلى صدارة اهتماماته جند الوضع الإنساني في السودان..

كانت الملفات السودانية -منذ نشوب حرب أبريل وإلى وقت قريب- طي الهجران في مسرح الفاعلين الدوليين.

وبنظرة عابرة لدفاتر أحداث الأسبوع الماضي نلحظ بوضوح تنامي وتيرة الاهتمام العالمي بأزمة السودان، والعناية الأمريكية، بوجه الخصوص، بمسارات الهدنة الإنسانية التي تتنكب الطريق منذ أكثر من عامين. 

“مئات الآلاف من القتلى وملايين المشردين وعواقب حربية كبدت البشرية أكبر أزمة نزوح عالمية في التاريخ الحديث”.. ربما كانت هذه بض العناوين البارزة والمكرورة في أزمة السودان، لكن رغم كل ذلك ظلت واشنطن تتعاطى مع مشهد النزاع كما لو أنها غير معنية به.

وفي التفاتة نادرة أيقظت زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى واشنطن، الأسبوع الماضي، كل عصب الاهتمام، وكان لها فعل السحر، إذ تبدلت المعادلة تماما بوصوله إلى البيت الأبيض.

ترامب نفسه أبدى زهده وممانعته للتورط في أمر السودان بيد أن الاهتمام بأمن المنطقة عبر البحر الأحمر، وفي ظل توجس أطراف أخرى من تمدد الصراع وتأثيراته على الأمن الإقليمي، حفز الجميع على التقدم خطوة للأمام بغية كسر الجمود. عليه كان الزخم الكبير الذي أضفته المباحثات الأمريكية السعودية، وتموضع المسألة السودانية في صدارة ملفات ترامب – بن سلمان، سيما وأن الأخير طفق يغذي في مخيلة مضيفه صورة “صانع السلام” ويزين له فكرة أن الطريق إلى نوبل ربما كان يمر عبر السودان.

لكن السؤال الحقيقي لن يكون لماذا اهتم ترامب الآن؟ ولا يتعلق أيضا بمن الذي حرض ترامب، بل الأجدى الآن طرح الاستفهام الأعمق: هل سيستمر الزخم؟ أو بالأحرى؛ إلى متى؟ فأطراف المعادلة الحربية في الداخل أتقنت عمليات شراء الوقت وتزجية الوقت في تبادل الملامات، وهو مسعى سيستمر بكل تأكيد خلال الأيام القادمة، تحت ضغط فاعلين محليين في الداخل وإقليميين بالخارج يمانعون تغير الأوضاع، يغذون الصراع ويعاندون رياح السلم؛ ريثما يتناسى المجتمع الدولي أمر السودان وينكب على اهتمامات بديلة، دأبه كل مرة.

ومن نافلة القول إن الزخم الأمريكي نفسه لا يمكن التعويل عليه لأمد طويل، فالمتابع لمجريات الداخل الأمريكي سيلحظ بوضوح أن الكثير من الأصوات تتعاطى بلا مبالاة مع شؤون الخارج، وبالأخص وسط ناشطي كتلة “أمريكا أولا”، والفاعلين من جماعة ماغا؛ إذ يرى هؤلاء أن الاهتمامات الدولية التي لا تهم الناخب تمثل هدرا للوقت والمال، كون الأمريكي العادي ما زال يضع الاقتصاد والتضخم في صدارة اهتماماته، وعليه فإن وقف إطلاق النار في السودان لا يعني شيئا بالنسبة لهؤلاء.

الأطراف الإقليمية أيضا لها مآربها ضمن صراع الذهب والموانئ والأمن القومي، وبالنسبة للبعض من هؤلاء ربما علا جند استمرار الفوضى على هم الرغبة في إطفاء نيران الصراع، سيما إن كانت غلة السلم ستصب في رصيد أحد المنافسين.

وبشيء من الواقعية يمكن صياغة الهواجس عاليها على النحو متسائل: هل اللحظة مناسبة فعلا لإنجاز هدنة إنسانية وانعقاد طاولة تفاوضية تعيد الأمور إلى نصابها في السودان؟ الإجابة يمكن تلمسها في ظلال الأحداث الموازية المتمثلة في الضغط السعودي والأدوات الأمريكية من عقوبات وحوافز ووساطة. حسنا ماذا عن شبهة غياب الإرادة السياسية في الداخل؟ السؤال صعب بالضرورة والإجابة أصعب إذ لا يمكن التعويل على الخارج وحده وضغوطاته لإنجاز واجبات الداخل ، كما أن التاريخ يعلمنا أن الاهتمام الأمريكي المفاجئ بأيما مسألة سرعان ما يتلاشى عندما يبدأ العد التنازلي للانتخابات النصفية أو عندما يشتعل ملف آخر ويغدو على بعد ذراع من عدسات الكاميرات. الحقيقة التي ينبغي ألا نتجاهلها هي أن السودان على الطاولة هذا الأسبوع وتحت نظر البيت الأبيض، لكننا لا ندري ماذا سيوضع في سطح المكتب البيضاوي الأسبوع القادم..! 

وعلى كل فما نعرفه على وجه اليقين يمكن صياغته بإجابات أكثر تشاؤما ما لم نتعاطى مع الأمور بجدية أكبر: صخب الملايين الجياع يشق أسماع الوجود، وأسراب الضحايا لم يعد لديهم ترف انتظار “اللحظة المناسبة” من جديد. بناء عليه؛ إما أن تترجم اللحظة السعوديأمريكية إلى وقف حقيقي للنار وفتح ممرات للمساعدات، أو أن يبقى السودان مجرد عنوان عابر في نشرة أخبار يقرأ بسرعة ثم يُطوى. ما ينتظره الجميع هو: معالجة حقيقية للأزمات ونتائج عملية بسرعة كبيرة.

Exit mobile version