“القوة ليست في السيف، بل فيمن يستطيع أن يضع السيف جانباً – ليو تولستوي”.
حسام حامد
في تحول غير مسبوق منذ إندلاع الحرب المدمرة في السودان في أبريل 2023، شهدت منصات التواصل الاجتماعي السودانية تغيّراً لافتاً في المزاج العام؛ فبعد عامين ونصف من التحريض، الكراهية، والاستقطاب الحاد، بدأ صوت جديد يعلو، صوت يطالب بالسلام؛ هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل جاء عقب المبادرة الدبلوماسية المفاجئة التي أطلقها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي أعادت السودان إلى واجهة الاهتمام الدولي وأعطت للشارع السوداني أملاً طال انتظاره.
هذا الأمل يبرز في وقتٍ يئن فيه السودان تحت واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث، بأرقام صادمة عن القتل، الجوع، النزوح، والانهيار الاقتصادي؛ لذلك، لم يكُن غريباً أن تتلقف مواقع التواصل هذه المبادرة باعتبارها “بصيص النور الوحيد” بعد سنوات من الظلام.
انهيار خطاب الكراهية… صعود خطاب السلام
وفي السياق، ومنذ الأسابيع الأولى للحرب، تحولت المنصات الرقمية إلى ساحات معارك موازية، حيث استخدمت كل من القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF) خطاباً تحريضياً يغذي العنف العرقي والانتقام، ويحوّل الخلاف السياسي إلى معركة وجودية؛ لكن بعد إعلان مبادرة بن سلمان / ترامب، بدأت المعادلة تتغير.
فقد تراجع الخطاب التحريضي بشكلٍ ملموس، وارتفعت الأصوات التي تطالب بوقف الحرب، وإغاثة المدنيين، وفتح المسارات الإنسانية، وإحياء العملية السياسية؛ لعل المفارقة أن الذين كانوا قبل أسابيع فقط يروجون للانتقام، أصبحوا يرفعون شعارات “أوقفوا النزيف” و”لا للحرب”، والسبب بسيط.. المبادرة أعادت للسودانيين الإحساس بأن العالم ما زال يرى مأساتهم، وأن السلام ليس مجرد أمنية بعيدة.
لماذا لاقت المبادرة صدى غير عادي؟
إزاء ذلك نجد أنّ السّر يكمن في توقيت المبادرة نفسه، فالسودان يعيش حالياً أكبر أزمة نزوح في العالم، بواقع 12 مليون نازح، وأكثر من 25 مليون شخص يعانون الجوع الحاد، ومع تقديرات لوفيات تتراوح بين 150,000 و400,000 شخص، ومع تفشي الكوليرا والانهيار شبه الكامل للنظام الصحي، أصبح السؤال ليس في “كيف نريد أن نعيش؟” بل “كيف يمكن أن منع الموت الجماعي؟”.
إلى ذلك، المبادرة جاءت أيضاً بعد اعتراف دولي نادر من ترامب، الذي وصف السودان بأنه “الأسوأ في العالم من حيث الكارثة الإنسانية”، مؤكداً أنه بدأ العمل على الملف بعد نصف ساعة فقط من اجتماع مع بن سلمان؛ هذا التحرك السريع أعطى انطباعاً بأن هناك جدية غير مسبوقة.
تفاصيل المبادرة… وازدواجية المصالح الدولية
وفي السياق، لا يمكن فصل الاندفاعة السعودية/الأمريكية عن المشهد الإقليمي؛ فالرياض تدرك أن استمرار الحرب يهدد أمن البحر الأحمر، ويفتح الباب لتدخلات إضافية من روسيا والإمارات وإيران، بينما ترى واشنطن أن الملف جزء من معركة النفوذ في إفريقيا.
المبادرة تقوم على ثلاثة محاور رئيسية
الأول، هدنة إنسانية عاجلة تسمح بإدخال الغذاء والدواء إلى ملايين المحاصرين في الخرطوم ودارفور وكردفان؛ والمحور الثاني، وقف الدعم الخارجي للأطراف المتحاربة، خاصةً دعم الإمارات لـRSF، والسعودية ومصر لـSAF، إضافة لتدفق الأسلحة من بيلاروسيا وإريتريا وإيران؛ والثالث، خارطة طريق سياسية تقود إلى سلطة مدنية موحّدة، مع إبعاد الجماعات المتطرفة وتعزيز دور القوى المدنية المعتدلة.
وعليه، فإن أهمية المبادرة أنها ليست مجرد بيان دبلوماسي؛ بل جزء من “تحالف رباعي” (واشنطن، الرياض، أبوظبي، القاهرة) قادر فعلاً على الضغط على الطرفين.
ترحيب سياسي وشعبي… وحذر في الكواليس
على أرض الواقع، جاءت ردود الفعل السودانية الرسمية/الشعبية سريعة، القوات المسلحة رحبت على لسان رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان بالمبادرة، وقدم شكره لترامب وبن سلمان، وقوات الدعم السريع أبدت استعداداً للتفاوض، بشرط “وقف التدخلات الخارجية”، كما أن القوى السياسية والمدنية، مثل تحالف “صمود” بقيادة عبد الله حمدوك، اعتبرتها “دفعة قوية” لخارطة الطريق.
ونجد أن الرأي العام، خصوصاً على منصة X، انقسم بين مؤيدٍ بحماس، ومشكّك يرى أن المبادرة ستُفشلها الإمارات أو التنافس السعودي-الإماراتي؛ لكن رغم الجدل، يظل التحول الأبرز هو تصاعد خطاب السلام، وهو ما كان شبه غائب منذ بداية الحرب.
أكبر أزمة إنسانية في العالم… حرب لا يمكن أن تستمر
في العمق، يتعامل السودانيون اليوم مع واقع يفوق كل تصور، 61 ألف قتيل في الخرطوم وحدها خلال عام واحد، 260 ألف شخص محاصرون في مخيم زمزم بينهم 130 ألف طفل، تفشي الكوليرا والملاريا والضنك، في ظل غياب تام للمستشفيات، وانكماش اقتصادي بلغ 42%، وتضاعف أسعار الغذاء، وارتفاع التضخم إلى 170% قبل أن يتراجع قليلاً، وفي ظل سيطرة RSF على معظم حقول النفط، وسيطرة SAF على المصافي، وتحول تجارة الذهب إلى مصدر رئيسي لتمويل الحرب، نجد أن هذه الصورة المفجعة جعلت أي صوت يدعو للسلام يبدو أكثر واقعية من أي خطاب يدعو لمواصلة القتال والتحريض على الكراهية.
لماذا يهبط خطاب الكراهية لأول مرة؟
للجواب على هذا السؤال نجد أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية، تبدأ من الإنهاك الشعبي، إذّ أنّ السودانيون وصلوا لمرحلة الانكسار؛ الحرب لم تعد تفرق بين طرف وآخر، بجانب تغير المزاج الدولي، لأول مرة يتم وضع السودان على طاولة القوى الكبرى بشكل جدي، مع تراجع الدعاية الرقمية لمعسكر “دعم الحرب”، بعد فضح الحملات الممولة خارجياً، وانكشاف كثير من المقاطع المفبركة، تضاءل تأثير خطاب الكراهية.. إزاء ذلك، فإن هذه العوامل مجتمعة جعلت الدعوة للسلام هي الصوت الأغلب، لا الأقلية.
هل يقترب السودانيون فعلاً من السلام؟
إلى ذلك، فالطريق لا يزال معقداً، فالتنافس الإقليمي، وتدفق السلاح، والانهيار الاقتصادي، كلها عوامل قد تُفشل المبادرة؛ لكن هناك حقيقة واحدة لا يمكن تجاهلها، لأول مرة منذ أبريل 2023، بات لدى السودانيين مسار محتمل للحل، ولأول مرة، يرتفع صوتهم على منصات التواصل ليقول “نحن نريد السلام… الآن”.
وعليه، إذا استطاع الرباعي الدولي تحويل المبادرة إلى خطوات عملية، وإذا جرى وقف الدعم العسكري الخارجي، فقد يدخل السودان مرحلة جديدة، تنقذه من أكبر مأساة في تاريخه الحديث.
أما إذا فشلت المبادرة، فإن البديل هو استمرار حرب حصدت بالفعل مئات الآلاف، ودفعت البلد إلى أسوأ مجاعة محتملة منذ إثيوبيا في الثمانينيات.
نختم بمقولة ليو تولستوي: «النصر الحقيقي هو الذي يُحقق دون إراقة دماء»؛ إذّ أنّ خطاب السلام الذي يرتفع الآن ليس مجرد موجة عاطفية وحسب، بل يعتبر صرخة مجتمع نجا من الموت مرات عديدة، ويريد أن يعيش؛ وإن كان للسودان أن يبدأ رحلة التعافي، فستبدأ من هذه اللحظة، لحظة كسر دائرة الكراهية، وفتح نافذة الأمل.