خطاب البرهان.. بين معركة الداخل والضغط الدولي

 

عثمان فضل الله

في لحظة مفصلية من تاريخ السودان، تبدو الخرطوم وكأنها تعيش على مفترق طرق بين الداخل المضطرب والمحيط الإقليمي المتشابك، خطاب الفريق أول الركن عبد الفتاح البرهان الذي قدمه أمام كبار ضباط القوات المسلحة بالأمس  يعكس شعوراً بالاستهداف وحرصاً على استعادة زمام المبادرة، لكنه في الوقت ذاته يضع الجيش في قلب معركة سياسية، ويعيد صياغة العلاقة بين القوة العسكرية والحركة الإسلامية، وبين الداخل والخارج. ولعل الخطاب كشف وبجلاء أن البرهان يحاول استثمار أدواته المحدودة لإعادة رسم التوازن، الخارجي معتمداً على ظن لا أكثر بأنه سيطر على الداخل.

يتخذ خطاب البرهان في هذه المرحلة نبرة أعلى ووتيرة أسرع، كأن الرجل يدرك أن الزمن لم يعد يعمل لصالحه وأن ساحة الحرب والسياسة تتشكل من دون أن يمتلك وحده القدرة على ضبط مفاصلها. لذلك يتكئ على خطاب القوة والاستهداف والتحشيد الوطني ليعيد تعريف موقعه وموقع الجيش في معادلة لم يعد فيها كثير من المساحات الرمادية. وفي عمق هذا الخطاب، تتجاور رسائل الداخل والخارج؛ تارة يلوّح بقدرته على فرض الشروط، وتارة يقدّم نفسه كحامي الدولة، وتارة يهاجم وسطاء كانوا قبل أيام يقدَّمون بوصفهم ضمانة للحل، بل سارع الى تغريدة اثارت سخرية البعض ودهشة آخرين” شكراً ترامب شكراً محمد بن سلمان”.

معركة بقاء

في حديثه الأخير، يقدّم البرهان تفسيراً حاداً لما يصفه بـ“استهداف الدولة السودانية”، وهو تفسير يجعل من الحرب مشروعاً وجودياً وليس صراعاً على السلطة. يعيد التذكير بمعركة الكرامة بوصفها معركة بقاء، ويرفض كل ما يسميه “أنصاف الحلول”، ويربط وقف إطلاق النار بانسحاب الدعم السريع من المدن جمعاً وتسليماً. هذه السردية ليست جديدة، لكنها تزداد صلابة كلما تعمّقت أزمة الجيش في الميدان، وتحوّلت من موقف تفاوضي إلى قناعة خطابية تؤسس لمرحلة طويلة من الصدام.

في سياق متصل، يوجّه البرهان ضربة سياسية مباشرة للإمارات، معلناً أنها طرف غير محايد وأن وجودها ضمن الرباعية يفقد الوساطة براءة الذمة. قبل هذا التصريح، كانت الاتهامات الإماراتية – السودانية تدار عبر مساعديه أو عبر مواقف متفرقة داخل أروقة الأمم المتحدة. هنا تتكشف إحدى أهم عقد المشهد: البرهان لا يخوض مواجهة مع وساطة فحسب، بل مع دولة تمسك بخيوط واسعة من جغرافيا الحرب وروافدها الاقتصادية والعسكرية. وفي اللحظة التي يعلن فيها رفضه لورقة مسعد بولس “الأسوأ” في تاريخ الوساطات كما وصفها، يفعل ذلك وهو يدرك أن واشنطن لا تتحرك بمعزل عن أبوظبي، وأن أي تصور للسلام يمر عبر مصالح متشابكة لا يمكنه تفكيكها وحده.

نقاط القوة والضعف

ولعل السؤال الذي يتبادر الى الذهن على ماذا يستند البرهان لاتخاذ هذا الموقف المتشدد إزاء الحلول الخارجية، للإجابة على هذا السؤال يمكن القول ان نقطة قوته الأولى تكمن في الجيش الذي يقوده، المؤسسة التي لا تزال تحتكر سلطة القرار الفعلي على الأرض، وخصوصاً في مناطق النزاع الممتدة، وهو ما يمنحه قدرة على الضغط داخلياً وتهديد أي طرف محلي بالتصعيد العسكري، كما يمنحه مبرراً لرفض أي حل دولي لا يتماشى مع رؤيته.

إلى جانب القوة العسكرية، يعتمد البرهان على خطاب وطني متشبع بالشعور بالاستهداف، ويضع نفسه قائدا  لمعركة صورت بانها معركة وجود للسودان بأسره، ليس مجرد صراع على السلطة، هذا الخطاب يمنحه غطاءً شعبياً جزئياً ويعزز موقعه أمام خصومه الداخليين.

كما يستثمر البرهان التحالفات الإقليمية، وبالخصوص علاقة السودان بالمملكة العربية السعودية وولي العهد، الى جانب القاهرة التي تؤمن بضرورة الحفاظ على الجيش كرمانة وازنة للمشهد السوداني المتصدع، ليضفي على موقفه صفة الشرعية الإقليمية ويستعمل هذا التحالف كأداة ضغط على الولايات المتحدة ودول أخرى في مسار الوساطة. وبالموازاة، يعيد إنتاج تجربة النظام السابق في إدارة الأزمات من خلال رفض الرقابة الدولية ولجان التحقيق، مستنداً إلى أسلوب مألوف في إدارة الضغط الخارجي بما يمنحه مساحة أكبر لتثبيت موقفه المتشدد.

لكن كل هذه القوة والورقة الرمزية لا تأتي بلا ثمن. فالاعتماد شبه الكامل على القوة العسكرية يجعل البرهان عرضة لمخاطر الاستنزاف الطويل، إذ أن العمليات في دارفور وكردفان لم تُحسم بالكامل، والصراع على الأرض لا يضمن فرض شروطه، في ظل تقارير استخبارية تتحدث عن أن الجيش الآن ليس في افضل احواله، ولعل حديث وكيل جهاز المخابرات المصرية السابق اللواء حاتم باشات كان واضحا في هذا الخصوص الى جانب تقارير تتحدث عن موجة سخط وغضب واسعة وسط الجنود والضباط، جراء ضعف المرتبات وعدم الاهتمام بعلاج الجرحى والسعي لفك الاسرى بل تجاهلهم بشكل كامل، كما أن دعمه السياسي الداخلي محدود، ولا يمتلك حلفاء مدنيين موحدين.

أدوات محدودة

على المستوى الدولي، أدواته محدودة أيضاً، فهو قد يرفع الصوت ويضغط لتعديل شروط الوساطة، لكنه لا يستطيع إقصاء الإمارات من الرباعية ولا إعادة هندسة التوازنات الإقليمية، فواشنطن والسعودية لن تتجاهلا دور أبوظبي في الملف السوداني. 

في مقالات لصحافيين غربيين – مثل تحليل نيكولاس لارسن في “فورين بوليسي” وحديث مراسلي “فاينانشال تايمز” عن خطوط التمويل والتسليح المتشابكة في الحرب السودانية – يرد توصيف واضح للدور الإماراتي باعتباره “عامل موازنة استراتيجي” أكثر منه طرفاً منحازاً في رؤية واشنطن. هذا التوصيف يمنح الإمارات وزناً مضاعفاً ويجعل أي محاولة لعزلها تصطدم بحائط المؤسسات الأميركية، لا بالوسيط وحده. ومن هنا تبدو هجمات البرهان على الإمارات محاولة لكسب مساحة تفاوضية لا أكثر، لأن ميزان القوة الإقليمي ليس في متناول الجيش السوداني ليعيد ترتيبه.

أما على المستوى الداخلي، فمن الواضح أن البرهان يحاول التماهي مع المزاج المعادي لأي تدخل أممي، وهو خطاب يعيد إنتاج نهج النظام البائد في رفض لجان التحقيق، ومهاجمة “الأجندات الدولية”، والحديث عن حلول وطنية خالصة. لكن الفرق الجوهري أن النظام البائد كان يمتلك آنذاك منظومة داخلية متماسكة، وحزباً حاكماً، وأجهزة أمنية تعمل في اتجاه واحد. أما الآن، فإن الدولة السودانية نفسها تعاني من تفسخ عميق، والجيش يقاتل على جبهات متعددة بلا غطاء سياسي موحد، والفضاء المدني مشرذم إلى حد التلاشي. وهذا يجعل رهان البرهان على القوة وحدها رهاناً محفوفاً بالمخاطر.

تحييد الاسلاميين

يحاول البرهان أيضاً تحييد الإسلاميين في خطاب موجّه للخارج، فيكرر أن السردية حول “سيطرة الإخوان” داخل الجيش مجرد فزاعة إماراتية. لكن حضور الإسلاميين في المشهد – من خلال خطابات علي كرتي المتصاعدة، وإعادة تنشيط شبكات دولة ما قبل الثورة، ومحاولة هندسة المشهد السياسي من الخلف – يجعل تصريحات البرهان تبدو دفاعاً سياسياً أكثر منها توصيفاً للواقع. فالغرب ينظر بعين الريبة إلى أي عودة للإسلاميين، وهذا ما يجعل ورقة اتهام الجيش بالاختراق الإسلامي ورقة فعالة في يد خصومه الإقليميين.

 

في محصلة هذا المشهد، يبدو البرهان كمن يريد إعادة تشكيل الطاولة وهو لا يمتلك حق الدعوة إلى تشكيلها. يستطيع أن يرفع الصوت، ويؤخر بعض المسارات، ويضغط لتعديل بعض بنود التفاوض، لكنه لا يملك القدرة على إقصاء الإمارات من الرباعية ولا على فرض خارطة الطريق الخاصة به على واشنطن. كل ما يستطيع فعله هو المناورة داخل هامش ضيق، مدفوعاً بأمل أن تتغير المعادلة العسكرية في الميدان، أو أن يتحول موقف الرياض إلى دعم أوضح لرؤيته. لكن المعادلة الإقليمية الراهنة لا تمنح بورتسودان هذا الترف.

جدار سياسي

في النهاية، خطاب البرهان ليس مجرد إعلان موقف، بل محاولة لبناء جدار سياسي يرفع من خلاله كلفة الوصول الى حلول في اي تفاوض قادم. لكنه جدار هش، لأن أدواته محدودة، وحلفاءه ليسوا كتلة صلبة، والبيئة الدولية لا تحفل بتصعيد الخطاب بقدر ما تحفل بالقدرة على تقديم حلول قابلة للتنفيذ، وبين الخرطوم وزالنجي والجنينة، تتنقل دبابات الحرب وتختلط أصوات الانفجارات بصدى التصريحات الرسمية، فيما يحاول السودانيون قراءة مستقبل بلادهم وسط ضباب الحرب والدبلوماسية. على الطاولة الدولية، لا تزال الإمارات تمسك بخيوط النفوذ، وواشنطن تراقب، والسعودية تحاول التوسط. في الداخل، يعيد الجيش ترتيب أوراقه، وتبرز الحركة الإسلامية من الظل لتستعيد حضورها. المشهد يبدو وكأنه لوحة متحركة، كل شخصية فيها تتحرك بحذر، وكل خطوة تحمل في طياتها كلفة سياسية أو عسكرية. وفي قلب هذا المشهد، يقف البرهان، رافعاً شعار الكرامة وبيديه خارطة طريق مفترضة، لكنه يعلم أن الخرائط الحقيقية لا تُرسم إلا بعد معركة الأرض والقرار والإقليم، وأن السودان بأسره يظل مسرحاً مفتوحاً لصراع النفوذ والتوازنات، حيث لا فائز إلا من يقرأ الواقع بذكاء ويعرف حدوده.

Exit mobile version