من بعيد/ نشأت الإمام
في مشهد سياسي متشابك تتداخل فيه الحسابات العسكرية مع الضغوط الإقليمية والدولية، برز خلال الأيام الماضية تناقض لافت في مواقف رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بين ترحيبه بالمبادرة التي طرحها الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحل أزمة السودان، وبين تكراره تصعيدًا لافتًا في خطاباته الداخلية بإصراره على “القضاء النهائي على الميليشيا” في إشارة إلى قوات الدعم السريع.
هذا التباين، الذي أثار تساؤلات واسعة، لا يمكن قراءته بعيدًا عن السياق المركّب الذي يعيشه السودان، ولا عن موقع البرهان نفسه في شبكة معقدة من الحسابات العسكرية والسياسية.
تصريحات البرهان المرحّبة بالمبادرة السعودية-الأمريكية جاءت بصيغة إيجابية، مشيدًا بدور الرياض وواشنطن في “التخفيف من نزيف الدم” واستعداد حكومته للانخراط في أي مسار يفضي إلى سلام.
هذا الموقف فتح الباب أمام انطباع بأن قائد الجيش السوداني بات أكثر مرونة تجاه أي جهود دولية يمكن أن تُنهي الحرب المستمرة منذ أكثر من عام ونصف.
ترحيب من هذا النوع يُقرأ غالبًا كنوع من الاستجابة للضغوط الإقليمية، خاصة في ظل اهتمام سعودي-أمريكي متزايد بالملف السوداني، رغبةً في تجنّب تفاقم الصراع أو انزلاقه نحو ساحات إقليمية أكبر.
غير أن هذا الوجه المرن سرعان ما انقلب إلى نبرة مختلفة تمامًا في خطابات البرهان الموجّهة للداخل. ففي أكثر من تصريح، أكد أن “لا حل إلا بالقضاء التام على الميليشيا”، وأن “طريق القضاء عليها لا رجعة فيه حتى تُفنى”، داعيًا السودانيين القادرين إلى حمل السلاح والانخراط في ما يشبه التعبئة العامة.
هذه اللغة تحمل دلالات واضحة: البرهان لا يرى في قوات الدعم السريع طرفًا يمكن التفاوض معه، بل خصمًا وجوديًا يجب استئصاله، وهو خطاب يجد صداه بين قطاعات واسعة متضررة من الحرب، ويعزز شرعية الجيش في مواجهة خصمه.
القراءة الأكثر توازنًا لهذا التناقض تشير إلى أن البرهان في الواقع يتعامل مع ضغوط متعارضة:
- ضغوط داخلية تدفع نحو التشدد
- الرأي العام في مناطق نفوذ الجيش يطالب بحسم عسكري سريع.
- التراجع عن خطاب القوة قد يُفسَّر على أنه ضعف أو استعداد للتنازل للدعم السريع.
- الجيش نفسه، بقياداته وجنوده، يعيش حالة تعبئة ميدانية تجعل خيار التفاوض غير مرغوب شعبيًا.
- ضغوط خارجية تدفع نحو المرونة
- السعودية والولايات المتحدة تسعيان إلى مسار تسوية يوقف الحرب ويمنع توسّعها.
- المجتمع الدولي يضغط من أجل وصول مساعدات إنسانية ومنع انهيار أوسع للدولة.
- استمرار الحرب يُرهق السودان اقتصاديًا ويُضعف قدرة البرهان على المحافظة على موقعه.
هذا الدوران بين الضغطين يجعل البرهان مضطرًا لجمع رسالتين: إحداهما تطمئن الداخل بأنه لا تنازل، وأخرى تُظهر للخارج أنه منفتح على جهود السلام.
قد يبدو التناقض صارخًا، لكنه ليس جديدًا في المشهد السوداني. غالبًا ما تلجأ الأطراف المتحاربة إلى استخدام خطاب سياسي مزدوج:
تصعيد ميداني يكسب الداخل، ومرونة دبلوماسية تجذب الخارج.
بالنسبة للبرهان، قد يكون هذا المزيج ضرورة استراتيجية:
- يستفيد من المبادرات الإقليمية دون أن يقدّم تنازلات تُضعف موقعه.
- يرسل رسائل إلى الدعم السريع بأن سقف التفاوض منخفض للغاية.
- ويثبت لقاعدته العسكرية أنه ما يزال ثابتًا على خيار “الحسم”.
لكن هذا التوازن محفوف بالمخاطر؛ فاستمرار التناقض دون تقدم ملموس في مسار السلام قد يفقد المبادرات الدولية زخمها، ويزيد من تعقيد الميدان، ويترك السودان عالقًا بين مسارين متناقضين لا يلتقيان.
تضارب تصريحات البرهان ليس مجرد اختلاف لغوي بين خطاب وآخر؛ بل هو انعكاس لمأزق سياسي وعسكري يعيش فيه السودان اليوم. ما بين ضغوط الداخل واشتراطات الخارج، يقف البرهان أمام سؤال لا يمكن تجاوزه:
هل يستطيع الجمع بين مسار الحرب ومسار التسوية في وقت واحد؟
أم أن استمرار التناقض سيقود في النهاية إلى إضعاف موقعه وفتح الباب لتحولات أكبر في المشهد السوداني؟