حسابات القوة في السودان

الترحيب بترامب بين الاستثمار السياسي والهروب من المساءلة

وجدي كامل 

تستمر الحرب السودانية في إنتاج المزيد من التعقيدات التي تعكس عمق الأزمة السياسية والبنيوية في البلاد، وفي خضم هذا المشهد المتشابك تتبدّى جملة من المواقف التي تكشف التناقض الواضح في سلوك القيادة العسكرية. فالمؤسسة التي دأبت على رفض المبادرات الداعية للسلام—من مسار جدة إلى مبادرة المنامة وصولاً إلى اجتماعات جنيف—وواصلت في الوقت نفسه الامتناع عن تسليم المطلوبين للعدالة الدولية وعرقلة عمل لجنة تقصّي الحقائق، تبدو اليوم أكثر ترحيباً بمبادرة دولية جديدة جاءت عبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبدعم سعودي.

هذا التحوّل المفاجئ أثار اهتمام الرأي العام السوداني، خاصة أن الترحيب السريع بالمبادرة بدا متجاوزاً للضوابط الدبلوماسية المعتادة، وأقرب إلى محاولة للاستفادة من الظرف السياسي، وتوظيفه لتعزيز موقع القيادة العسكرية في خارطة الأزمة. إذ ظهر قائد الجيش وكأنه يسعى إلى إعادة تقديم نفسه كطرف قادر على إدارة العلاقات الخارجية وتسهيل الحلول الدولية، رغم أن ممارسته على الأرض تتعارض مع متطلبات السلام ومع الالتزامات السابقة للمؤسسة العسكرية في جولات التفاوض.

ولا يمكن النظر إلى هذا المشهد بمعزل عن حقيقة أن قيادة الجيش، ومعها عناصر من المؤتمر الوطني، طرف أساسي في تفجير الحرب وصياغة مسارها الدموي. وفي المقابل، فإن قوات الدعم السريع—التي خرجت تاريخياً من داخل المنظومة العسكرية—باتت شريكاً مباشراً في الانتهاكات الواسعة التي لحقت بالمدنيين. ورغم التباين الحاد بين الطرفين، فإن كليهما ظلّ مسؤولاً عن انتهاكات متقاربة في طبيعتها وتأثيرها على النسيج الاجتماعي السوداني، ما يجعل محاولات كل طرف تحميل الآخر مسؤولية الحرب محاولة غير مقنعة للرأي العام.

وبالنظر إلى هذه الوقائع، تتضح معالم الأزمة المركزية في السودان: فالمواطنون المدنيون الذين تحمّلوا العبء الأكبر من الصراع—من قتل وتشريد وفقدان للممتلكات وانهيار شامل في الخدمات—لا يمكن أن يكونوا مجرّد متلقين لنتائج تفاهمات تُبرم بين طرفين يرفضان السلام حين يهدد امتيازاتهما، ويتقبلانه فقط عندما يخدم مصالحهما السياسية.

إن الحرب الجارية ليست مجرد صراع على النفوذ أو الموارد؛ بل هي في جوهرها حرب على حق المواطنين في الأمن والاستقرار والعيش الكريم. وقد أدى هذا الصراع إلى تحويل المدن إلى ساحات مفتوحة للعمليات العسكرية، والقرى إلى مسارات للنزوح القسري، الأمر الذي خلّف أزمة إنسانية عميقة لا تزال تتجاوز قدرة الدولة والمجتمع على الاستجابة.

ومن هذا المنطلق، يثور التساؤل مشروعاً:

هل يشكّل الترحيب بمبادرة ترامب محاولة للالتفاف على مسارات المساءلة والتحقيق التي تطالب بها جهات دولية وإقليمية؟

أم أنه بحث عن شرعية خارجية يمكن أن تدعم موقف القيادة العسكرية في ظل تآكل الشرعية الداخلية؟

في الحالتين، يكشف هذا التحوّل عن خشية واضحة من أي عملية تقصٍّ مستقلة قد تُفضي إلى تثبيت مسؤوليات لا ترغب الأطراف في الاعتراف بها.

وعليه، بات من الضروري أن يستعيد المدنيون السودانيون زمام المبادرة عبر تنظيم صفوفهم ودعم مؤسساتهم المدنية، بما يضمن طرحاً واضحاً لمطالبهم في العدالة والمحاسبة. إن محاكمة كل من شارك في إشعال الحرب وتحريك أدواتها—أياً كان موقعه أو صفته—تُعد شرطاً أساسياً لبناء أي عملية سياسية مستقبلية يمكن أن تحظى بقبول شعبي.

إن مستقبل السودان لن يُرسم في غرف التفاوض المغلقة بين أطراف الحرب، بل سيُبنى على قاعدة الإرادة الشعبية التي أثبتت حضورها في ديسمبر 2018. فشرعية الحكم في السودان يجب أن تستند إلى احترام القانون وضمان الحقوق الأساسية للمواطنين، لا إلى التحالفات العسكرية أو التدخلات الخارجية، أياً كانت مصادرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى