وول ستريت جورنال: السودان يفتح أبوابه لروسيا.. عرضٌ استراتيجي يمنح موسكو أول قاعدة بحرية لها في أفريقيا

بقلم : بينوا فوكون ونيكولاس باريو – وول ستريت جورنال

في خطوة تعكس حجم التحولات الجيوسياسية المتسارعة في منطقة البحر الأحمر، قدّمت الحكومة العسكرية السودانية عرضًا إلى موسكو يُتيح لها إنشاء أول قاعدة بحرية دائمة في أفريقيا، في إطار اتفاق طويل الأمد يُعيد رسم موازين النفوذ الدولي على واحد من أهم الممرات البحرية العالمية. وكشف مسؤولون سودانيون أن المقترح، الذي سُلّم لوفد روسي في أكتوبر، يُعدّ الأخطر من نوعه منذ اندلاع الحرب في البلاد عام 2023، إذ يمنح الكرملين موطئ قدم غير مسبوق على أبواب قناة السويس، ويضع الخرطوم في مواجهة مباشرة مع ضغوط أمريكية وأوروبية متوقعة.

بموجب المقترح، ستحصل موسكو على حق نشر ما يصل إلى 300 جندي في بورتسودان أو في منشأة بديلة تُختار لاحقًا على الساحل الشرقي، مع السماح لأربع سفن حربية بما في ذلك سفن تعمل بالطاقة النووية بالرسو بشكل دائم. كما سيمنح الاتفاق روسيا وصولاً مباشراً إلى معلومات حساسة حول امتيازات التعدين السودانية، خاصة في مجال الذهب الذي يُعدّ شريانًا اقتصاديًا رئيسيًا للخرطوم، وثالث أكبر قطاع إنتاجي في أفريقيا.

ويرى مراقبون أن وجوداً عسكرياً روسياً في بورتسودان سيُشكل تحوّلاً استراتيجياً لافتاً، نظراً لتموضع المدينة عند تقاطع طرق الملاحة بين أوروبا وآسيا، وضمن مسافة قريبة من مضيق باب المندب، أحد أكثر الممرات حساسية في العالم. فمن هذه القاعدة، سيكون بمقدور موسكو مراقبة حركة السفن العابرة نحو قناة السويس، التي يمر عبرها نحو 12% من التجارة العالمية، وتوسيع عملياتها البحرية خارج البحر الأسود والمحيط المتجمد الشمالي وتلك المنتشرة بشكل متقطع في البحر المتوسط.

في المقابل، ستحصل القيادة العسكرية السودانية على منظومات دفاع جوي روسية متطورة وصفقات تسليح بأسعار تفضيلية، في محاولة لتعزيز موقعها العسكري في الحرب الدائرة مع قوات الدعم السريع. وأكد مسؤول عسكري سوداني أن الحكومة “بحاجة ماسة إلى إمدادات جديدة”، لكنه أقرّ بأن توقيع اتفاق بهذا الحجم “قد يفتح الباب أمام عقوبات وضغوط أمريكية وأوروبية”.

ورغم أهمية الصفقة لكل من موسكو والخرطوم، التزم الطرفان الصمت رسميًا. فالحكومة السودانية لم تُعلّق على العرض، بينما تجاهل الكرملين عدة طلبات للتصريح، وفق مصادر مطلعة. لكن إشارات سابقة صادرة عن مسؤولين روس كانت قد أكدت رغبة موسكو في تثبيت وجود دائم على البحر الأحمر، وهو حلم سعت خلفه منذ خمسة أعوام دون أن يتحقق.

يأتي التحرك الروسي في لحظة فقدت فيها موسكو بعضاً من زخمها في القارة الأفريقية. فبعد أن كانت قوات ومرتزقة مجموعة “فاغنر” تنتشر في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وتلعب أدواراً أمنية لصالح حكومات محلية، تعثّر هذا النفوذ عقب تمرد يفغيني بريغوجين عام 2023 ومقتله، ما جعل روسيا تعتمد على وحدات عسكرية بديلة لم تستطع حتى الآن ملء الفراغ الذي تركته “فاغنر”. لكن الأنظار الروسية تتجه اليوم نحو السودان باعتباره فرصة لتعويض خسائر نفوذها شرق وغرب القارة، في ظل حرب أرهقت مؤسسات الدولة وجعلتها أكثر انفتاحًا على الدعم الخارجي.

الولايات المتحدة، التي تراقب الصراع السوداني عن كثب، تنظر بقلق إلى إمكانية ظهور قاعدة روسية جديدة على مرمى نظر من قواتها في القرن الأفريقي. إذ يمتلك الجيش الأمريكي قاعدة كبيرة في جيبوتي تُعرف بـ”معسكر ليمونيه”، تضم قوات تدخل سريع، ووحدات مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى دعم عمليات في الصومال واليمن. ويعتقد مسؤولون في وزارة الدفاع الأمريكية أن وجودًا روسيًا جديدًا على البحر الأحمر، مقرونًا بالتحركات الصينية المتزايدة في القارة، سيُقيد حرية واشنطن في المنطقة وقد يمنح موسكو وبكين نقاط ضغط إضافية في صراعات الشرق الأوسط والقرن الأفريقي.

الصين، بدورها، كانت قد دشّنت أول قاعدة خارجية لها في جيبوتي عام 2017 ضمن مشروعها الضخم “الحزام والطريق”. وتملك بكين شبكة واسعة من الموانئ التجارية عبر القارة، ما يمنحها حضورًا اقتصاديًا متقدّمًا مقارنة بموسكو، لكن الأخيرة تبحث عن موطئ قدم عسكري مباشر يُعيد لها القدرة على التحرك بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط دون قيود.

التحول السوداني نحو روسيا لم يكن مفاجئاً بالكامل، إذ ظلّت الخرطوم منذ سنوات تُرسل إشارات متضاربة حول علاقاتها الدولية، بما يعكس فوضى الصراع على السلطة داخل البلاد. فبعد أن حاولت حكومة ما قبل الحرب التقارب مع واشنطن لرفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، عادت القيادة العسكرية الحالية لتبحث عن دعم خارجي جديد يُساعدها على تثبيت قبضتها في مواجهة تمرد يزداد شراسة.

ويرى متخصصون في الجغرافيا السياسية أن السودان أصبح ساحة مفتوحة للتدخلات الدولية، حيث تستغل القوى الكبرى حالة الانقسام الداخلي لتحقيق مصالحها. فالصراع بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان والفريق أول محمد حمدان دقلو لم يعد محصوراً في حدود السلطة، بل تحوّل إلى بوابة لتنافس عالمي تُشارك فيه قوى إقليمية ودولية، كلٌّ يسعى لتوسيع نفوذه في بلد يملك واحدة من أطول السواحل على البحر الأحمر وأكثرها استراتيجية.

Exit mobile version