أحمد الليثي
منذ تعيين د. كامل إدريس رئيسًا لوزراء السودان، دخلت البلاد مرحلة جديدة كان يُفترض أن تحمل بارقة أمل في إعادة ترتيب المشهد السياسي، واستعادة جزء من مؤسسات الدولة المنهارة، وفتح نافذة نحو تخفيف المعاناة الإنسانية. لكنّ تقييم الأشهر الستة الماضية يكشف عن فجوة واسعة بين رمزية التعيين وفاعلية الأداء، وبين صورة رجل الدولة التي انتظرها الناس، وما ظهر فعليًا على الأرض.
*أولًا: سياق التشكيل… حكومة نشأت في فراغ سياسي*
قبل تقييم الأداء، لا بد من الإشارة — بقدر من الموضوعية — إلى طبيعة السياق الذي جاءت فيه الحكومة.
فقد تشكّلت عبر قرار مباشر من مجلس السيادة في وقت غابت فيه العملية السياسية التوافقية، وتعطّلت مؤسسات الانتقال، وانهارت البنية الدستورية. وهذا يجعلها — من منظور التحليل السياسي — حكومة نشأت بقرار فوقي في ظرف استثنائي أكثر منها حكومة قائمة على تفويض شعبي أو توافق وطني.
ومع ذلك، فإن الدخول في جدل “الشرعية” — بين من يصفها بحكومة أمر واقع ومن يعتبرها حكومة طوارئ ضرورية — لن يغير من جوهر التقييم. فالمعيار الحقيقي للحكومة، مهما كانت طريقة تشكيلها، هو ما تقدمه للناس في ظل الحرب والانهيار.
*ثانيًا: ما كان يُنتظر… وما كان ممكنًا*
في لحظة كهذه، كان يفترض أن ينشغل رئيس الحكومة بـ:
* صياغة خطة طوارئ إنسانية واقتصادية،
* إطلاق مفاوضات لتخفيف آثار الحرب،
* إعادة تشغيل الخدمات الأساسية،
* تنظيم الجهاز التنفيذي المترهل،
* واستعادة الحد الأدنى من العلاقات الإقليمية والدولية.
* إدارة ملف الحرب والتفاوض،
* خلق مركز تنسيق فعّال بين الجيش، والولايات، والقطاع المدني.
هذه ليست طموحات مرتفعة، بل الحد الأدنى من مهام أي حكومة انتقالية مسؤولة.
*ثالثًا: الأداء الفعلي… خطوات رمزية بلا أثر مؤسسي*
عند مقارنة التوقعات بما جرى فعليًا، تتضح الصورة التالية:
* غياب برنامج حكومي واضح
لم تُطرح رؤية، ولا خطة اقتصادية، ولا أولويات معلنة.
البلاد تعمل بلا “بوصلة تنفيذية”.
* تحركات خارجية مرتبكة وغير بروتوكولية
زيارات دون دعوات رسمية، لقاءات غير مُعدّة، ومواقف تفتقر إلى الاحترافية الدبلوماسية، ما يعكس غياب جهاز سياسي منظم يساند رئيس الوزراء.
* تركيز على الرموز والزيارات الاجتماعية
زيارة التكايا، زوايا الطرق الصوفية، والمناسبات الشعبية…
هذه أفعال تُحسب لرجل مجتمع، لا لرئيس حكومة في ظرف انهيار مؤسسات ودولة مأزومة.
* تصريحات غير دقيقة في ملفات حساسة
مثل نفي المجاعة أو إطلاق شعارات في دول أخرى بطريقة غير مدروسة — وهذا يضر بالمصداقية أكثر مما يعززها.
* غياب إنجاز واحد قابل للقياس
* لا تحسن في الخدمات،
* لا تقدم في ملف السلام،
* لا خطوات اقتصادية جادة،
* لا حتى تنظيم إداري أولي يعيد هيكلة مؤسسات الدولة.
*رابعًا: أين تكمن المشكلة؟ في الرجل أم في البنية؟*
للتقييم الموضوعي، يجب التمييز بين مستويين:
# على مستوى الفرد:
كامل إدريس يمتلك خلفية دبلوماسية وأممية، لكنه:
* لم يعمل من قبل في إدارة دولة،
* ولا في حكومة ميدانية،
* ولا في إدارة أزمات داخلية،
* ولا يمتلك قاعدة سياسية أو تنفيذية يمكن البناء عليها.
هذه عوامل تفسر ارتباكه.
# على مستوى المنصب والمنظومة:
حتى الشخص الأكثر خبرة سيصطدم بـ:
* دولة بلا مؤسسات،
* جهاز إداري منهك،
* حرب مفتوحة،
* تدخلات إقليمية،
* وانقسامات عسكرية وسياسية.
ومع ذلك، فإن المنصب يحتاج إلى قائد دولة، لا إلى وجه رمزي.
*خامسًا: بين النوايا والأدوات*
ليس من الموضوعي اتهام الرجل بسوء النية.
لكنّ النوايا وحدها لا تكفي.
السياسة — خصوصًا في زمن الحرب — ليست مسرحًا للنوايا الطيبة، بل ساحة أدوات: رؤية، قرار، تحالفات، إدارة، وبناء مؤسسات.
وغياب الأدوات يجعل أي رئيس وزراء رهينة للأحداث بدل أن يكون صانعًا لها.
*سادسًا: تقييم موضوعي للخلاصة*
بعد ستة أشهر، يمكن القول بوضوح:
* لا توجد نتائج ملموسة على الأرض،
* لا توجد رؤية،
* لا توجد خطة،
* ولا توجد مؤشرات على تحول قريب.
هناك حضور إعلامي، نعم.
لكنّ حضور الحكومة في واقع حياة الناس… ضعيف إلى درجة الغياب.
*المشهد أقرب إلى محاولة إضفاء “غطاء مدني” على واقع عسكري/أمني، أكثر من كونه مشروعًا لإعادة بناء الدولة.*
*سابعًا: الرسالة الأوسع*
الهدف من هذا النقد ليس الشخصنة، بل التأكيد على الحقيقة المؤلمة:
* السودان لا يحتاج إلى رمزية جديدة، بل إلى دولة جديدة.
* لا يحتاج إلى حضور إعلامي، بل إلى حضور مؤسسي.
* لا يحتاج إلى صور وزيارات، بل إلى قرارات ومسارات.
في زمنٍ تنهار فيه المدن، وتُغلق المستشفيات، وتتداعى المؤسسات، لا يحكم التاريخ على الحكومات بالشعارات… بل بما تُنجزه للناس.