أفق جديد
في مشهد جديد يُعمّق أزمة الثقة في الخطاب الرسمي السوداني، تراجع رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان عن حديثه السابق بشأن تسلّمه “ورقتين” من الآلية الرباعية الدولية، ليؤكد بعد لقائه المبعوث النرويجي أن هنالك “ورقة واحدة فقط” وليست ورقتين. هذا التحوّل السريع، الذي بدا كتصحيح معلومة، سرعان ما تحوّل إلى مادة سياسية ملتهبة كشفت حجم التعقيد داخل دوائر القرار، وعمّقت الشكوك حول ما إذا كان البرهان مضلَّلاً… أم يواصل لعبة المراوغة التي باتت سمة ملازمة له في كل ما يتصل بمبادرات إنهاء الحرب.
تضليل أم مراوغة
الخبير الأمني الفاضل النور يقول لـ “أفق جديد” إن ما جرى قد يكون نتيجة “عملية تضليل” يتعرض لها البرهان من دائرته القريبة، تدفعه إلى اتخاذ مواقف رافضة للمقترحات الدولية دون فهم دقيق لمحتواها. ويضيف بأن البرهان “يتعرض للتضليل منذ فترة طويلة”، مشيراً إلى أن أول مظاهر ذلك هو إصراره على رواية إطلاق الدعم السريع للرصاصة الأولى، رغم أن واقع الأحداث يناقض هذه الرواية.
يرى النور أن تضارب المعلومات داخل غرف القرار يشكل خطراً بالغاً على مسار الحرب والسلام، ويخلق ارتباكاً في الموقف الرسمي ويضعف قدرة الدولة على التعامل مع المبادرات الدولية بجدية ومسؤولية.
خيوط اللعب
لكن هذه الرواية، التي تُحمّل المسؤولية للمحيطين بالبرهان، تصطدم برؤية مغايرة تماماً يقدمها السياسيون والخبراء، وفي مقدمتهم مسؤول العلاقات الخارجية في حزب التحالف الوطني السوداني،شهاب إبراهيم.
ويقول شهاب إبراهيم، لـ”,أفق جديد” إن البرهان لا يتعرض للتضليل على الإطلاق، بل يمارس المراوغة عن سبق قصد، ويتعمد باستمرار تقديم “حقائق بديلة” للرأي العام الداخلي ليبرر استمرار الحرب.
بحسب شهاب، فإن البرهان يلعب بكل الخيوط المتاحة أمامه لكي يتهرب من وقف الحرب، لأنه يدرك أن أي عملية سلام جادة ستؤدي إلى انتزاع الجيش من قبضة التيار الإسلامي وإعادته إلى مسار مهني يخضع للسلطة المدنية. ويضيف أن خارطة الطريق الحالية للسلام، التي تبدأ بهدنة إنسانية وتمهد لعملية سياسية، تعتمد على استبعاد الإسلاميين من المشهد وتجريدهم من سيطرتهم على الأجهزة الأمنية، إلى جانب معالجة ظاهرة تعدد الميليشيات بما يشكل أساساً لحل استراتيجي دائم للحروب في السودان.
ويرى شهاب أنه لكي يصبح هذا المسار واقعاً، يجب فك الارتباط بين البرهان والمجموعات الإسلامية التي تضغط عليه كلما اقترب خطوة نحو الحل. فإذا استمرت مراوغاته، على المجتمع الدولي أن يبحث عن بديل داخل قيادة الجيش، لأن استمرار الحرب بهذا الشكل سيحوّلها إلى صراع اجتماعي مسلح واسع، في ظل رغبة البرهان الواضحة في تحويل السودانيين إلى ميليشيات تتصارع على أسس عرقية واجتماعية.
رواية معاكسة
في المقابل، يقدم الخبير الأمني اللواء د. معتصم عبد القادر رواية مغايرة تماماً. فهو يرى أنّ البرهان ليس مضلَّلاً ولا يمارس المراوغة، بل يتعرض لمحاولات تضليل خارجية من الدوائر الدولية التي تعمل – بحسب قوله – على تقوية الدعم السريع ومحاولة إظهار الجيش كطرف رافض للسلام.
يقول عبد القادر لـ” افق جديد” إن المستشار الأميركي مسعد بولس قدّم بالفعل ورقة للبرهان، لكنها – بحسب وصفه – جاءت نتيجة عمل بولس “في خط موازٍ” لخط الخارجية الأميركية وأجهزة المخابرات، وبمنأى عن التطورات التي حدثت بعد زيارة ولي العهد السعودي للولايات المتحدة. ويرى أن الورقة الأميركية لم تراعِ التغييرات الحقيقية في الموقف الأميركي تجاه الحرب، وأن تصريحات البرهان ضد بولس جاءت بسبب فهمه بأن الرجل “معوق لعملية السلام”.
وبحسب عبد القادر، فإن تصريحات المبعوث النرويجي حول عدم وجود ورقة جديدة ليست تراجعاً من البرهان، بل “رسالة من الحكومة الأميركية” مفادها أن موقف واشنطن الرسمي لم يتغير، وأن سقف التعامل مع الحكومة السودانية لا يزال منخفضاً بعد أن صرّح الرئيس ترامب بأنه لم يكن يعلم بوجود سلطة قائمة في السودان، وكان يظن أن الأمر مجرد حرب بين جنرالين. وهو ما يشير – وفق عبد القادر – إلى فجوة كبيرة في تعامل الإدارة الأميركية مع مؤسسات الدولة السودانية.
الموقف الأمريكي
وفي خضم هذا الجدل، تحدّث متحدث باسم الخارجية الأميركية لـ أفق جديد مؤكداً أن الرئيس ترامب يريد السلام، وأن الولايات المتحدة ملتزمة بإنهاء النزاع المروع في السودان. وشدد على أن الهدنة الإنسانية تقع مسؤولية الالتزام بها على القوات المسلحة السودانية والدعم السريع معاً، وأن على جميع الأطراف تسهيل وصول المساعدات الإنسانية.
وأكدت الخارجية أن الشعب السوداني يستطيع العودة إلى الحكم المدني في ظل سودان موحد ومستقر، وأن الهدنة قادرة على وقف الفظائع وتخفيف المعاناة.
ثلاث مسارات
و في السياق نقلت قناة ” الحدث” عن مصادر لم تسمها تفاصيل المقترح الأميركي، الذي يتضمن ثلاثة مسارات: عسكري يبدأ بوقف إطلاق النار، وسياسي يقوم على حوار شامل يستبعد النظام السابق، وإنساني يبدأ بالموافقة على الهدنة وفتح المسارات. ويتضمن المقترح أيضاً تشكيل لجنة دولية لمراقبة وقف النار، وإصلاحاً عسكرياً يخرج الإخوان من الجيش، وحل الميليشيات، وتأسيس جيش مهني يخضع لسلطة مدنية جديدة.
المشهد المعقد
وفي ذات الاتجاه ، جاءت تصريحات المبعوث النرويجي، الذي أكد أن مستشار الرئيس الأميركي مسعد بولس لم يقدم أي مقترحات جديدة للحكومة السودانية بشأن الهدنة الإنسانية، ليدفع البرهان إلى الترحيب الفوري. المفارقة أن البرهان نفسه كان قد تحدث قبل أيام عن “ثلاث أوراق”، ووصف ورقة بولس بأنها “أسوأ ورقة” لأنها “تلغي وجود الجيش” وتبقي على الدعم السريع.
إن التناقض في مواقف بورتسودان يكشف جانباً أساسياً من طريقة البرهان في إدارة الملف السياسي والدبلوماسي: تقديم روايات متغيرة، ثم التراجع عنها، ثم استخدام هذا التراجع كرسالة سياسية. ما سبق لا يشير إلى تضليل، وإنما إلى استراتيجية سياسية تقوم على التلاعب المتكرر بالحقائق، لتوجيه الرأي العام الداخلي وإرباك الوسط الدولي.
يجد السودان نفسه اليوم أمام مشهد مضطرب: مبعوث نرويجي ينفي، مستشار أميركي يقدّم أوراقاً، مصادر إعلامية تكشف مقترحات مفصلة، وخارجية واشنطن تؤكد رغبة الرئيس ترامب في السلام. لكن وسط هذه الضوضاء يظهر رجل واحد يبدّل رواياته من يوم لآخر، ويتعامل مع المبادرات الدولية كأوراق للمساومة والتكتيك لا كفرصة لإنقاذ بلد يتآكل، وهو ما أكده مصدران دبلوماسيان تحدثا الى افق جديد كل على حدة مشيرين الى ان العديد من القرارات في كابنة القيادة مرتبكة، واكدا ان وزارة الخارجية أصابها الشلل جراء هذا الارتباك.
البرهان لا يبدو مضلَّلاً؛ بل يبدو لاعباً يحرك الأوراق كلها، ولو على حساب دولة تنحدر نحو صراع اجتماعي مسلح. وبين ورقة وورقتين، يكاد السودان يفلت من بين يديه، فيما لا تزال قيادة الدولة تفضّل صناعة الضباب بدل صنع السلام.
في نهاية هذا المشهد المربك، يتضح أن جوهر الأزمة ليس في عدد الأوراق التي وصلت إلى البرهان، بل في غياب الإرادة السياسية لإنهاء الحرب. فالرجل الذي يبدّل رواياته بين ليلة وأخرى، ويتعامل مع المقترحات الدولية بوصفها مادة للمناورة، يهرب من الحقيقة الكبرى: أن السودان لن ينجو ما دام رهينة لحسابات رجل واحد يقدّم بقاءه السياسي على بقاء الدولة نفسها.
لقد كشفت التصريحات المتضاربة، والمواقف المتبدلة، ومسارح الإنكار المتكررة أن السلطة في الخرطوم لا تبحث عن سلام، بل عن وقت إضافي لإعادة ترتيب موازين القوة. وفيما تتقدم واشنطن والرباعية بمقترحات واضحة، وتتناسل المبادرات من كل اتجاه، يظل القرار السوداني محبوساً في غرفة واحدة، يديرها عقل مستعد لإطالة المأساة مهما كان الثمن.
إن السودان اليوم لا يحتاج إلى ورقة جديدة، بل إلى قيادة جديدة تضع مصير الشعب فوق مناورة الجنرالات، قبل أن تتحول الحرب إلى قدر لا فكاك منه.