حاتم ايوب ابوالحسن
يعيش اليسار السوداني واحدة من أكثر لحظات تاريخه ارتباكاً وغموضاً، لحظة تتداخل فيها الشعارات القديمة مع حسابات البقاء، وتتقاطع فيها المواقف العلنية الرافضة للحرب مع تحركات ميدانية واجتماعات غير معلنة تجعل موقفه الفعلي أقرب إلى معسكرات لا ينسجم معها تاريخياً ولا نظرياً. في ظل الحرب التي شطّرت البلاد وأعادت صياغة موازين القوة على نحو فجائي وعنيف، بدا اليسار وكأنه يفقد القدرة على تعريف نفسه، ويتحرك داخل فضاء مشدود بين ضغط النخب، وميراث الهوية، واحتياجات السلامة السياسية، وصراع طويل مع الإسلاميين يختلط اليوم بملامح تعاون أو تقاطع غير معلن.
تبدأ الإشكالية من ازدواجية الخطاب. فبينما يرفع اليسار بيانات واضحة ضد الحرب، تظهر في الطرف الآخر صلات، أو تفاهمات ضمنية، أو دعم غير مباشر لدوائر عسكرية أو سياسية ارتبطت بمشروع الإسلام السياسي، وتكشّف بعضها من خلال الكتائب الثورية المقاتلة أو عبر اللقاءات المغلقة التي فضحت جزءاً من هذا المسار. هذه الازدواجية لا تعبّر عن انقلاب فكري مفاجئ، بل عن تراكم ضغوط جعلت قطاعات من اليسار تسعى إلى حماية نفوذها أو إلى موطئ قدم داخل ترتيبات قادمة لا تزال غامضة ومفتوحة على كل الاحتمالات.
ثمة عامل ثقافي لا يمكن تجاهله. جزء من اليسار السوداني يحمل تاريخاً تشكل في أزمنةٍ كان فيها الخطاب القومي العربي حاضراً بقوة، وما تزال تلك الجذور تُنتج حساسية عالية تجاه قضايا الهوية والانتماء. يتوارى هذا الإرث أحياناً خلف اللغة المدنية والحقوقية، لكنه يظهر حين تتقاطع المصالح مع تيارات إسلامية ذات خطاب عروبي. في لحظات الانهيار، تعود الهويات البديلة لتصبح جسوراً مؤقتة تسمح بتفاهمات كان يُفترض ألا تقع، لكنها حدثت بفعل عطب العهد السياسي كله.
الأعمق من هذا العامل هو حضور نخبة يسارية متمرسة تدرك أن الحيز المدني يتراجع، وأن قواعد اللعبة تُعاد كتابتها بقوة السلاح لا صناديق السياسة. هذه النخبة لا تتحرك بوعي أيديولوجي بقدر ما تتحرك بدافع البقاء؛ بقاء في المشهد، بقاء في الذاكرة الجماهيرية، بقاء في أي نموذج للسلطة المقبلة. وهنا يتحول الموقف من الحرب إلى مساحة رمادية؛ فإذا كان الرفض العلني ضرورة أخلاقية أمام الشارع، فإن التموضع العملي يصبح في بعض الأحيان رهينة الاتصالات والتحالفات قصيرة العمر.
هذا المسار يترك أثره على القوى المدنية التي تشكلت بعد الثورة. فكلما بدا اليسار متردداً أو غامضاً أو متقاطعاً مع قوى مسلحة وإسلامية، فقد جزءاً من مكانته داخل الكتلة الثورية، وترك مساحة هائلة لتكاثر الأصوات التي ترفع شعار المدنية دون القدرة على حماية نفسها أو على صياغة مشروع متماسك. غياب موقف يساري صريح أضعف الجبهة المدنية وأعطى شرعية ضمنية لتحالفات الأمر الواقع، وسمح للغلبة العسكرية بأن تتحول إلى ظاهرة سياسية قد تمتد لسنوات.
في المقابل، لا يمكن القول إن اليمين الإسلامي خرج منتصراً. الحرب أضعفته كما أضعفت الآخرين، لكنه اليوم يجد فرصة للعودة من خلال تشظي خصومه وفقدان اليسار بوصلته. هذه ليست عودة أيديولوجية بقدر ما هي عودة بفعل الفراغ، وهو فراغ صنعه الجميع، بمن فيهم اليسار الذي ضيّع لحظة كان يجب أن تكون لحظة الحسم الأخلاقي والسياسي.
المشهد الأكثر تعقيداً هو مستقبل هذا الانزياح. فإذا استمر اليسار في التماهي مع حسابات النخب، سيدخل مرحلة انحسار طويل يجعل وجوده شكلياً، وسيترك الساحة بين يمين يعيد إنتاج نفسه وبين قوى مدنية لا تملك القوة التنظيمية ولا الدعم الاجتماعي الكافي. وإذا اختار طريقاً آخر، مستقلاً عن ضغط النخب وعن إرث التحالفات الرمادية، فسيحتاج إلى إعادة بناء ذاته من القاعدة، وإلى خطاب شجاع يواجه به الواقع بلا مواربة، ويقرّ بأن الحرب ليست مساحة لتوازنات براغماتية، بل اختبار أخلاقي يفرز من يصلح للبقاء ومن يسقط في دائرة الشبهات.
السودان اليوم ليس مجرد ساحة قتال بل ساحة امتحان سياسي وفكري. والحرب ليست أزمة عسكرية فقط، بل أزمة في تعريف القوى نفسها. اليسار السوداني يقف الآن على الحافة بين أن يستعيد دوره كقوة مدنية تُصغي للناس وتقف معهم، أو أن يتحول إلى ظل باهت بين معسكرات السلطة، يفقد صوته وذاكرته وهويته.
إن أخطر ما يواجهه اليسار اليوم ليس خسارة مواقعه، بل خسارة معناه. وإذا لم يستطع أن يعيد قراءة اللحظة بجرأة، وينزع عنه غبار التحالفات المبهمة، ويعود إلى جذره كقوة اجتماعية منحازة للإنسان أولاً، فإن هذه الحرب ستغدو فعلاً حرب الفناء السياسي، ليس لليمين وحده، بل لليسار أيضاً، في مشهد يحمل كل مساحيق النخبة المركزية التي تفرض حضورها على خرائب وطن يبحث عن أفق، ولا يجد من يلتقط صرخته بصدق.
كاتب سوداني ..