ورقة بلا صاحب وتصريح بلا ذاكرة

 

حيدر المكاشفي 

في بلدنا الذي تدار فيه الدولة اليوم كما تدار طبلية في آخر سوق أم دفسو، ظهر علينا خبر وكالة سونا ليؤكد للعالم أن حكومة الأمر الواقع في بورتسودان أصبحت رسمياً أول حكومة في التاريخ تتحدث عن ورقة لم تقدّم اليها ثم ترحّب بنفي وجودها بعد أن صرخت من خطورتها.. نعم، لا تستغرب فأنت أمام سلطة تقرأ ورقة ثم تكتشف أنها ليست الورقة، بينما الورقة التي قالت إنها الورقة ليست أصلاً ورقة، وأمريكا نفسها تنفي أنها كتبت ورقة ومع ذلك، السلطة زعلانة من الورقة..و…(ورقة ورقة يساوي ورقتين وورقة وورقة وورقة بتعمل غاغة)، فهل هناك مشهد عبثي أكثر من هذا، لا يا عزيزي هذه هي الحكمة الوطنية في نسختها الجديدة..ويبقى السؤال الحائر قائماً من أين جاءت الورقة التي لا وجود لها..هذه والله غلوتية لا شبيه لها إلا حكاية الرجل الأعمى الذي يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة وفي ليلة حالكة السواد مع أن القطة أصلا ً لا وجود لها.. فالمبعوث النرويجي الذي استقبله البرهان جاء رده حول الورقة إياها بكل برود وقال ( يا جماعة الخير ما في أي ورقة أمريكية جديدة(…فجأة البرهان، الذي قبل يومين كان يزمجر بأن الورقة أسوأ ورقة في التاريخ، خرج مبتسماً وقال وهو يفرك يديه (الحمد لله.. كويس إنها ما موجودة).. إزاي يعني يا كاهن الكلام دا؟ ياخي منو البدأ الزوبعة دي؟ ومنو اتكلم عن ورقة ومنو اللي قعد يخوف الناس من ورقة بحل الجيش وتصفية الأمن.. أليس أنت شخصياً ومعك نفس الناس اللي هسع بيقولوا ما في ورقة.. والله لو هذه الورقة المفترى عليها لديها قدمين لكانت خرجت من البلد من الإحراج الذي سببتموه لها..إنها هندسة التناقض.. فهل هو نتيجة ارتباك؟..لا مستحيل. إنه عملية خلط أوراق متعمد، وخلط نيات، وخلط عقول لو شئت الدقة. والهدف صناعة شبح خارجي.. يخلقون ورقة وهمية لرفع الأدرينالين الوطني، وبعدها ينفونها ليثبتوا أنهم انتصروا على شبح لم يكن موجوداً أصلاً.. وكذا للهروب من الأسئلة الثقيلة المحرجة.. كيف تدير حرباً بلا خطة.. كيف تتعامل مع اقتصاد يتهاوى.. الاجابة بسيطة.. إفتعل ورقة، واشغل وألهي بها الناس واجعلهم يبحثون عن إجابة سؤال (الورقة دي جات من وين؟)..وهكذا يتم تسميم الأجواء التفاوضية، وكلما اقترب الناس من فكرة تسوية، يظهرون (ورقة خطيرة) لتخويف الجمهور، ثم ينفون وجودها لتخويف الطرف الآخر.. وكان أطرف ما في حكاية هذه الورقة المنبتة هو مشهد وزير الخارجية في مؤتمره الصحفي الذي عقده بنهاية اجتماعات مجلس الدفاع والأمن، حين ظل يقرأ ويقرأ ويقرأ، ثم فجأة وقف… واتلفت… وصرخ (هووووي دي ما الورقة الحقني يا صبير).. يا راجل تقرأ ورقة خطأ أمام الملأ وتستنجد بصبير، وكيف لصبير أن يلحقك ويفزعك وكلكم (في الهوى سوا)، وكأن المشكلة ليست في الورقة، بل في من دلّس الملعوب.. إن هذه السلطة تتعامل مع الرأي العام كما يتعامل لاعب سيرك مع الكرات، ترمي واحدة، تسقط أخرى، وتخفي ثالثة. إنها لعبة التلات ورقات التي يجيدها القمرتية.. ففي بلد تتوه فيه الحقيقة، تصبح الورقة الصحيحة هي الغلط، والغلط هو الصحيح، والورقتين لا علاقة لهما بأي شيء.. ولم تكن تلك الورقة إلا ذريعة ومجرد أداة.. لو أرادوا الهجوم على خصوم الداخل رفعوها ولوحوا بها كقميص عثمان.. ولو أرادوا التهدئة نفوها.. ولو أرادوا الظهور بمظهر الغيورين على السيادة شتموها. ولو أرادوا الظهور بمظهر الحكماء قالوا يا جماعة ما في ورقة أصلاً.. هذا ليس تناقضاً فقط، هذا تلاعب مكشوف، ورواية تكتب بيد وترمى بالأخرى. والخلاصة هي أن الورقة الوحيدة الموجودة هي ورقة التلاعب.. فهل كان الأمر خلط أوراق.. بالطبع نعم ولكن ليس خلط أوراق تفاوضية بل خلط أوراق عقول الناس.. فالسلطة صنعت شبحاً، ثم قتلت الشبح، ثم إحتفلت بقتل شبح لم يولد أصلاً.. وكل ذلك يحدث للأسف بينما البلد يحترق ويعاني دمار في كل شئ،.. وفي النهاية تبقى الحقيقة المرة أن الورقة الوحيدة الحقيقية هي الورقة التي يكتبون بها هذا العبث.. فطريقة (كراع جوة وكراع برة)، وطريقة (لا بريدك ولا بحمل بلاك) باتت مملة وسمجة ومكشوفة للعالمين ، والبلاد الآن باتت على شفا حفرة من الإنهيار التام في كل المجالات، ولم تعد تحتمل هذا الوضع الكارثي،وصار كل يوم يمر مع هذا الحال يحمل معه سوءاً أكثر من سابقه، وضاق الحال بعامة الناس لحد الانفجار، ولكل هذا لم يعد هناك من خيار لانقاذ البلاد والعباد من هذا المصير الأسود، سوى ان يتم تجاوز هذا الوضع السوداوي، إما بالمضي حثيثاً مع الرباعية والتعاطي معها إيجاباً حتى نهايتها،  أو أن يظلوا يمارسون (اللولوة) والمناورة ولعبة القمرتية المسماة ملوص، بهدف تمييع الأوضاع واللعب على عامل الزمن لأطول مدة، ودأبوا على وضع العراقيل والمتاريس واستخدامها لإعاقة أي فرصة حل تلوح، تكررذلك كثيرا منذ شهر الحرب الأول وما زالت مستمرة حتى اليوم، فقد كان البرهان وجماعته كلما تقدم الناس خطوة بإتجاه الحل لإنهاء الحرب واستعادة المسار المدني الديمقراطي، أعادوهم خطوتين للوراء بمثل هذه العراقيل المصنوعة، الأمر الذي يكشف ان البرهان ومجموعته غير جادين في الوصول للحل، ويعملون بطرق فهلوية لاستدامة أوضاعهم ومصالحهم التي حصلوا عليها بالحرب، ولكن خطورة هذا التكتيك اللولبي الذي يشتغل عليه البرهان ومن هم خلفه وامامه ايضا، سيرتد عليهم وبالا لو كانوا يعقلون ولات ساعة مندم..

Exit mobile version