بسم الله الرحمن الرحيم
دور القضاء في زمن الحرب والأزمات
قراءة مقارنة ومقاربة سودانية
توطئة:
القضاء هو الحارس الطبيعي للدستور والحقوق الأساسية، خاصة في أوقات الأزمات حيث تميل السلطة التنفيذية إلى توسيع صلاحياتها بذريعة الأمن القومي. التجارب العالمية تُظهر أن المحاكم إما أن تكون حصناً للحقوق أو أن تغيب عن المشهد، مما يؤدي إلى إنتهاكات جسيمة. وفي السودان، حيث النزاعات المسلحة والانقسامات السياسية، يصبح دور القضاء أكثر إلحاحاً في ترسيخ سيادة حكم القانون وضمان العدالة.
أولاً: المسؤولية الدستورية للقضاء في الأزمات
مسؤولية القضاء هي حماية الحقوق الدستورية في مواجهة تجاوزات السلطة التنفيذية أثناء الأزمات.
الأمثلة التاريخية في الولايات المتحدة و في عدد من الدول تُظهر أن غياب التدخل القضائي يؤدي إلى انتهاكات جسيمة، بينما التدخل الشجاع يعزز الديمقراطية.
ثانياً: السياق التاريخي المقارن
الولايات المتحدة الامريكية
قوانين الأجانب والتحريض على الفتنة (1798)
أُقرت في عهد الرئيس جون آدامز، وتتكون من أربعة قوانين هذه القوانين حدّت من حرية التعبير ووسّعت سلطة الرئيس في طرد الأجانب، وهي مثال مبكر على استخدام القانون لتقييد الحقوق في زمن الأزمات:
قانون التجنيس: رفع مدة الإقامة المطلوبة للحصول على الجنسية.
قانون الأجانب: منح الرئيس سلطة طرد الأجانب الذين يُعتبرون خطرين.
قانون أعداء الأجانب: سمح باعتقال وترحيل مواطني الدول المعادية أثناء الحرب.
قانون التحريض على الفتنة: جرّم انتقاد الحكومة أو الرئيس، مما قيد حرية الصحافة والتعبير.
هذه القوانين مثّلت تجاوزاً واضحاً للحقوق، والمحاكم لم تتدخل بالقدر الكافي، مما ساهم في سقوط الحزب الفيدرالي لاحقاً.
قضية كوريماتسو ضد الولايات المتحدة (1944)
بعد هجوم بيرل هاربر، أصدر الرئيس روزفلت الأمر التنفيذي 9066 الذي أجاز اعتقال اليابانيين الأمريكيين.
فريد كوريماتسو رفض الامتثال وتمت محاكمته. المحكمة العليا أيدت القرار بأغلبية 6-3، معتبرة أن الضرورة العسكرية تبرر الاعتقال.
هذه القضية تُعد مثالاً على فشل القضاء في حماية الحقوق الأساسية، رغم المعارضة القوية من بعض القضاة(dissents)، جسّدت فشل القضاء حين أيد اعتقال اليابانيين الأمريكيين
قضية حمدي ضد رامسفيلد (2004)
Hamdi v. Rumsfeld
542 U.S. 507, 124 S.Ct. 2633 (2004)
ياسر حمدي (المتهم)، وهو مواطن أمريكي، تم اعتقاله من قبل الجيش الأمريكي باعتباره “مقاتلاً عدواً” أثناء العمليات العسكرية في أفغانستان واحتُجز بلا محاكمة.. قام والده برفع دعوى habeas corpus للطعن في احتجازه غير المحدود دون توجيه تهم أو توفير إجراءات قانونية عادلة.
المحكمة العليا قضت بأن الحكومة تملك سلطة الاعتقال، لكن المتهم له حق الطعن أمام جهة قضائية محايدة، مؤكدة أن حتى في الحرب لا يجوز حرمان المواطن من المحاكمة العادلة.
القضية تناولت مسألة ما إذا كان اعتقال حمدي مصرحاً به قانوناً، وما هي الضمانات الإجرائية (الحق في المحاكمة العادلة) التي يستحقها. خلصت المحكمة العليا إلى أن الكونغرس قد أجاز مثل هذه الاعتقالات في ظروف معينة، لكن مقتضيات العدالة تفرض أن يُمنح حمدي فرصة للطعن في وضعه أمام جهة محايدة.
قضية راسول ضد بوش (2004)
Rasul v. Bush, 542 U.S. 466 (2004)
مجموعة من معتقلي غوانتانامو (غير أمريكيين) ،مواطنون بريطانيون وأستراليون، منهم Shafiq Rasu رفعوا دعاوى للطعن في اعتقالهم
المحكمة العليا قضت بأن للمحاكم الأمريكية ولاية قضائية على غوانتانامو، وأن المعتقلين لهم حق تقديم التماس ابراز السجين habeas corpus)).
هذا القرار مثّل تحولاً نحو حماية حقوق غير المواطنين في مواجهة السلطة التنفيذية.
قضيتي حمدي ضد رامسفيلد وراسول ضد بوش (2004) أظهرتا اتجاهاً حديثاً نحو حماية الحقوق الفردية حتى في مواجهة ادعاءات الأمن القومي.
ألمانيا
قضية Lüth(1958): الصحفي إريك لوت دعا إلى مقاطعة فيلم لمخرج كان نازيّاً سابقاً. المحكمة الدستورية الفيدرالية قضت بأن حرية التعبير لها أثر أفقي، أي أنها تنطبق ليس فقط في مواجهة الدولة، بل أيضاً بين الأفراد، هذا الحكم رسّخ مبدأ أن الحقوق الأساسية تشكّل “نظاماً قيمياً موضوعياً” يوجّه كل القانون.
هذه القضية أرست مبدأ أن الحقوق الأساسية لها أثر أفقي بين الأفراد، ورسّخت فكرة أن الحقوق تشكّل نظاماً قيمياً موجهاً لكل القانون، هذا القرار أكد أن أي تقييد للحقوق يجب أن يكون مبرراً ومتناسباً مع الدستور.
قضية Elfes (1957)
المواطن المدعي، ويليام ألفيس (Wilhelm Elfes)، كان مواطناً ألمانياً أراد السفر إلى الخارج ، السلطات الألمانية رفضت منحه إذن السفر، بحجة أنه يشكل خطراً على الأمن القومي ، ألفيس رفع دعوى دستورية، معتبراً أن هذا القرار ينتهك حقوقه الأساسية المكفولة في الدستور الألماني (القانون الأساسي – Grundgesetz).
المحكمة الدستورية الفيدرالية قضت بأن المادة 11 من القانون الأساسي (التي تنص على حرية التنقل داخل ألمانيا) لا تشمل السفر إلى الخارج، لكنها أكدت أن المادة 2 (1) التي تنص على “الحرية العامة للفعل” تشمل أيضاً حرية السفر إلى الخارج، أي أن حرية التنقل خارج البلاد تدخل ضمن نطاق الحرية العامة، وبالتالي فهي محمية دستورياً، المحكمة شددت على أن أي تقييد لهذه الحرية يجب أن يكون مبرراً ومتناسباً مع الدستور، ولا يجوز أن يكون تعسفياً.، وسّعت المحكمة الدستورية مفهوم الحرية العامة لتشمل حرية التنقل والسفر، مؤكدة أن أي تقييد للحقوق يجب أن يكون مبرراً ومتناسباً مع الدستور.
جنوب أفريقيا
قضية S v Makwanyane (1995.
بعد نهاية الفصل العنصري، كان على المحكمة الدستورية الجديدة أن تحسم مسألة عقوبة الإعدام طعن متهمون في دستورية العقوبة باعتبارها تنتهك الحق في الحياة والكرامة.، المحكمة قضت بإلغاء عقوبة الإعدام نهائياً باعتبارها مخالفة للحق في الحياة والكرامة، مما رسّخ ثقافة حقوق الإنسان في النظام الجديد.
قضية Grootboom (2000):
مجموعة من المواطنين الفقراء رفعوا دعوى ضد الحكومة لعدم توفير مساكن ملائمة، الا ان الحكومة اعتبرت أن توفير السكن ليس التزاماً فورياً ، المحكمة قضت بأن الحق في السكن جزء من الحقوق الدستورية الملزمة للدولة، وألزمت الحكومة باتخاذ خطوات عملية لتوفير السكن للفئات المهمشة.
المحكمة عززت فكرة أن الحقوق الاجتماعية ليست مجرد مبادئ توجيهية، بل التزامات قانونية قابلة أكدت أن الحق في السكن جزء من الحقوق الدستورية الملزمة للدولة، وألزمت الحكومة باتخاذ خطوات عملية لتوفير السكن للفئات المهمشة
ثالثاً: المقاربة السودانية
المحكمة الدستورية في السودان معطلة بسبب عدم تسمية قضاتها، مما يعني غياب أهم آلية لحماية الدستور والحقوق.
هذا الوضع يفتح الباب أمام السلطة التنفيذية والعسكرية لتجاوز الحقوق بلا رقيب، ويضعف مسار العدالة والعدالة الانتقالية.
السودان بحاجة إلى قضاء مستقل وفاعل، قادر على فرض الرقابة الدستورية، ومراجعة القوانين الاستثنائية، وضمان عدم استخدام الطوارئ كذريعة لقمع الحقوق أو لتصفية الخصوم السياسيين.
رابعاً: معايير المحاكمة العادلة كمؤشر لسيادة القانون
استقلال القضاء
حق الدفاع
علانية المحاكمة.
افتراض البراءة
منع الاعتقال التعسفي
والمساواة أمام القانون.
هذه المعايير هي الضمانة ضد تحويل القانون إلى أداة سياسية أو انتقامية.
خامساً: التوصيات العملية لإعمال سيادة حكم القانون في السودان
إعادة تفعيل المحكمة الدستورية فوراً عبر تسمية قضاتها وفق معايير الاستقلالية والكفاءة.
ترسيخ استقلال القضاء من خلال آليات شفافة للتعيين وضمان عدم خضوعه للسلطة التنفيذية أو العسكرية.
إصدار تشريعات واضحة تمنع الاعتقال التعسفي وتضمن حق الدفاع والمحاكمة العادلة.
فرض الشفافية والمساءلة بإلزام الحكومة بالكشف عن الإجراءات الأمنية ومراجعتها قضائياً.
المساهمة في العدالة عبر محاكمة الجرائم الجسيمة وضمان عدم الإفلات من العقاب.
التأكيد على دور نقابة المحامين في مراقبة المحاكمات و انها تعمل وفق لقانون ولعب دورر ال Amicus Juriae/Curiae هو أداة قانونية مهمة لتوسيع النقاش القضائي وضمان أن المحكمة لا تقتصر على حجج الأطراف المتنازعة فقط، بل تستفيد من خبرات المجتمع المدني والأكاديميين في السياق السوداني.
مراقبة المحاكم أو مراقبة المحاكمات (Court Monitoring / Trial Observation) وهي ممارسة معترف بها دولياً لضمان الشفافية والالتزام بمعايير المحاكمة العادلة.
تفعيل دور المجتمع المدني والمحامين في توثيق الانتهاكات
الاستفادة من التجارب الدولية (جنوب أفريقيا، ألمانيا، الولايات المتحدة) لتجنب تكرار أخطاء الماضي وبناء ثقافة قضائية جديدة.
الخاتمة
التجارب العالمية من قوانين الأجانب والتحريض على الفتنة من قضية كوريماتسو، وصولاً إلى قضيتي حمدي ورسول، تُظهر أن القضاء قد يتردد في مواجهة السلطة التنفيذية زمن الحرب، لكنه أيضاً قادر على فرض حدود لحماية الحقوق. وفي السودان، المطلوب اليوم هو قضاء مستقل وشجاع يعيد تفعيل المحكمة الدستورية، ويضمن الديمقراطية والعدالة ، ويُسهم في بناء دولة القانون بما يعيد الثقة الشعبية ويؤسس لسلام مستدام.
سامية الهاشمي
المحامية
نوفمبر 2025