كيف أشعل السودان حروب الجوار… ثم احترق بنيرانها؟””
عثمان فضل الله
لم يكن حضور الحركة الإسلامية السودانية — المتمثلة في تنظيم الإخوان المسلمين — في الجوار الإقليمي مجرّد سياسة خارجية قائمة على المصالح، ولا ردود فعل على تحولات محلية أو إقليمية، بل كان مشروعًا مكتمل الأركان، ينظر إلى السودان كـ”دولة مركز” ينبغي أن تتحكم في محيطها، وتعيد تشكيل التوازنات من حولها بما يخدم بقاءها في السلطة. ومنذ استيلائها على الحكم في 1989، نسجت الحركة الإسلامية خريطة معقدة من التحالفات، والتدخلات، ودعم الجماعات المسلحة، وصناعة الانقسامات داخل الدول المجاورة، لتصبح الفوضى—وليس الاستقرار—أداة استراتيجية في إدارة النفوذ.
ومع سقوط النظام في 2019، ظن كثيرون أن هذا الإرث انتهى. لكنّ السنوات الأخيرة، ولا سيما مع انتقال مركز القرار إلى بورتسودان خلال الحرب الحالية، كشفت أن المنهج الأيديولوجي والأمني الذي وجّه سياسات الخرطوم طوال ثلاثة عقود ما يزال حاضرًا، وإنْ تغيرت الأسماء والواجهات. واليوم، يظهر هذا الإرث مجددًا في موقف بورتسودان المنحاز لإريتريا في صراعها مع إثيوبيا،وفي عبثها بأمن واستقرار دولة جنوب السودان ومحاولاتها المستميتة لزرع الفتنة في تشاد، الطريقة التي تتعامل بها السلطة الحالية مع موازين القوى الإقليمية، تكاد تكون مطابقة لتلك التي حكمت السودان منذ التسعينيات، رغم أن سودان اليوم ليس بسودان الأمس فقد اعتراه الضعف وأكلت دابة الحرب والفساد منسأته ولكن من عشق الخراب لا يعيش إلا بين الركام.
ولفهم ما يحدث اليوم، لا بد من العودة إلى ثلاثة مسارح رئيسية لعب فيها النظام الإخواني دورًا مباشرًا: إفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، والقرن الإفريقي. فهذه المسارح ليست جزرًا معزولة، بل حلقات في سلسلة واحدة، يجمع بينها ما يمكن وصفه بـ”عقيدة الفوضى” التي شكّلت حجر الزاوية في سياسة السودان الإقليمية تحت حكم الإسلاميين.
بوابة الفوضى غربًا
في السنوات التي سبقت سقوط النظام، كانت إفريقيا الوسطى واحدة من أهم الساحات التي مدّت الخرطوم فيها أذرعها، ليس فقط من بوابة الجوار الجغرافي، بل من بوابة النفوذ السياسي والديني. وجدت الحركة الإسلامية في بانغي فرصة لإعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة تحت شعار “الامتداد الطبيعي للهوية الإسلامية”، وإنْ كان الدافع الحقيقي سياسيًا وأمنيًا
لم تكن إفريقيا الوسطى دولة مستقرة بطبيعتها؛ الانقسامات الدينية، والتوترات القبلية، وضعف الدولة المركزية، جعلتها قابلة للاختراق. وقد استغلت الخرطوم هذا الوضع منذ منتصف الألفية، وبدأت بتقديم دعم غير مباشر لجماعات مسلحة تنشط في شمال البلد، وهو دعم تراوح بين التدريب والتسليح واللوجستيات وفتح الحدود لعبور المقاتلين.
كان تحالف سيليكا أبرز تلك الجماعات. صحيح أن سيليكا لم يكن تحالفًا دينيًا خالصًا، لكنه ضم قيادات ذات انتماء إسلامي، وبعضها مرتبط بقبائل وأسر ممتدة عبر شمال دارفور وشرق تشاد. بالنسبة لإسلاميي الخرطوم، شكّل هذا التحالف فرصة لتحقيق ثلاثة أهداف:
الضغط على تشاد عبر دعم قوى مناوئة داخل إفريقيا الوسطى؛
الترويج لنفوذ ذي طابع إسلامي في بلد تسعى فرنسا منذ فترة طويلة لإبقائه تحت دائرة نفوذها؛
إيجاد عمق خلفي للمجموعات المسلحة السودانية التي كانت الخرطوم تستخدمها كأدوات مرنة في إدارة الصراع داخل دارفور.
ومع صعود سيليكا إلى السلطة في بانغي عام 2013 بقيادة ميشيل دجوتوديا، ظهر جزء من آثار الدعم السوداني: فالتشكيل القيادي للتحالف كان يحمل بصمات شبكات تمتد إلى داخل السودان، كما أن تدفق السلاح عبر دارفور لم يكن ممكنًا من دون غضّ الطرف من أجهزة أمنية سودانية كانت ترى في التحالف الجديد قوة يمكن التعويل عليها.
لكن الدور السوداني لم يكن محصورًا في السلاح. فقد تحولت الحدود بين دارفور وإفريقيا الوسطى إلى معبر ضخم للتجارة غير الشرعية: ذهب، مواشٍ، محروقات، وقطع سلاح خفيفة ومتوسطة. ووقفت وراء هذه التجارة شخصيات نافذة في النظام، بعضها مرتبط بجهاز الأمن الشعبي السابق، وبعضها جزء من إقتصاد الحرب الذي ازدهر سريعًا في دارفور. هذه الشبكات كانت—بحسب شهادات دبلوماسيين أفارقة وغربيين—أحد المحركات الرئيسية لإدامة الفوضى في إفريقيا الوسطى، لأنها كانت تستفيد من استمرار حالة الانهيار الأمني هناك.
أخطر ما في الدور السوداني في إفريقيا الوسطى أن الخرطوم لم تتعامل مع الصراع كأزمة يمكن أن تؤثر عليها، بل كأداة يمكن توظيفها. لقد كانت الفوضى عنصرًا من عناصر الأمن القومي وفق رؤية النظام الإخواني، طالما أن هذه الفوضى مفيدة في إبقاء الجوار ضعيفًا ومفتوحًا أمام نفوذ الخرطوم.
إذ أدى هذا الصراع الذي غذته الخرطوم إلى نشأة نوع من الانقسام القومي والديني بين المسيحيين الذين يشكلون نصف السكان (أي 50%)، وبين المسلمين الذين يشكلون 15% وراحت جراء ايادي الاخوان العابثة بمكونات دول الجوار الى مجازر راح ضحية لها آلاف المسلمين في ذلكم البلد الذي لم يكن يعرف قبلها الانقسام الديني.
الحرب داخل الحرب
إذا كانت إفريقيا الوسطى مسرحًا هامشيًا للدور الإسلامي، فإن جنوب السودان كان الساحة الرئيسية التي اختبر فيها الإخوان المسلمون أكثر أدواتهم عنفًا وتأثيرًا.
منذ بداية التسعينيات، اعتبر النظام الحاكم أن الحركة الشعبية لتحرير السودان هي التهديد الأكبر لمشروعه الأيديولوجي والسياسي. وفي سياق المواجهة معها، لم يكتفِ بالحرب المباشرة، بل عمل على تفكيكها من الداخل، عبر دعم فصائل منشقة، أبرزها فصيل لام أكول ورياك مشار في العام 1991، وهو الانشقاق الذي أدى إلى واحدة من أكثر المجازر دموية في تاريخ الجنوب.
ظل هذا النهج ثابتًا طوال سنوات: دعم انشقاقات جديدة كلما ظهرت فرصة، دعم مليشيات قبلية معارضة للحركة الشعبية، واستخدام المال والسلاح لخلق ولاءات يمكن التحكم بها. كانت استراتيجية “شق الصف” أساس السياسة السودانية هناك، واعتمدت على فرضية بسيطة: حركة شعبية موحدة تعني خطرًا على الخرطوم، بينما حركة شعبية ممزقة تعني هامش مناورة أكبر.
وعندما جاء اتفاق السلام الشامل في 2005، لم يغير ذلك من نظرة النظام الإخواني للجنوب. بل تعاملت الخرطوم مع الاتفاق كأداة لترتيب المشهد على طريقتها، عبر
الإبقاء على ولاءات قبلية مسلحة داخل الجنوب؛
توظيف الاقتصاد السياسي للحرب لخلق شبكات مصالح داخل جوبا؛
اختراق المؤسسات الوليدة عبر رجال أعمال وسياسيين مرتبطين بالنظام
ثم جاء الانفصال، لكن الخرطوم لم تُنهِ تدخلها، ابقت لها شبكات أمنية واقتصادية داخل الجنوب، كما استغلت هشاشة الدولة الجديدة — وعمق الانقسامات التي كانت هي نفسها جزءًا من أسبابها — من أجل الإبقاء على نفوذها، أو على الأقل منع صعود نفوذ مضاد.
وإذ اندلعت الحرب الأهلية في جنوب السودان عام 2013، كانت بصمات الخرطوم القديمة حاضرة في ملامح الصراع: انقسامات عرقية–سياسية تغذت عليها الخرطوم لعقود، وشبكات تسليح عمرها سنوات، وقيادات كان النظام السوداني يتعامل معها كأوراق جاهزة للاستخدام عند اللزوم.
كانت الدماء تسيل في ارض الجنوب والانقسام الاثني والعرقي يتفاقم وقادة الإسلام السياسي يقولون هل من مزيد، دعموا بلا حدود نائب رئيس الحركة الشعبية د. رياك مشار، لا لكي ينتصر على سلفا كير لكن كيما يظل الجنوبين يتقاتلون فيما بينهم فالخرطوم حينها كانت تستمع بالدماء ومشاهد الخراب، سقطت الإنقاذ ولكن رجالها الذين يديرون الملف في الأجهزة الأمنية والعسكرية بل أن بعضهم كان ضمن الوفد الذي شارك في مفاوضات الحركات الدار فورية وحكومة الفترة الانتقالية تحت لافتة الخبراء، ذات الرجال الذين حالوا الدفع بحكومة جنوب السودان الى الاصطفاف في حرب السودان الحالية، وعندما فشلوا الآن يسعون الى خراب جديد في جوبا ولعل التغييرات الكبيرة التي جرت الان في صفوف حكومة الجنوب اياديهم ليست بعيدة عنها، الى جانب ان دعمهم للجيش الأبيض المناوئ لسلفاكير لايزال متواصل، عبر التسليح والتدريب، والدعم اللوجستي.
إرث يعود
مع انتقال مركز السلطة إلى بورتسودان بعد إندلاع الحرب السودانية الحالية، عاد نموذج التفكير القديم إلى الظهور بصورة أكثر وضوحًا. فالتعاطي مع الصراع بين إريتريا وإثيوبيا يكاد يعيد إنتاج نفس الأدوات والمقولات التي حكمت الخرطوم خلال العقود الماضية
السلطات الحالية، رغم تغيرها شكليًا، تحمل داخل مؤسساتها الأمنية والعسكرية بقايا تأثير الحركة الإسلامية، سواء من حيث الأشخاص أو من حيث البنية الذهنية. وهذا ما يظهر في الانحياز الصريح إلى جانب إريتريا، على حساب إثيوبيا التي تتعامل معها بورتسودان كخصم استراتيجي
من منظور السلطة الحالية، يشكّل التقارب مع أسمرة فرصة لإعادة تشكيل التوازنات في شرق السودان، خاصة في ظل تنافس إثيوبي–سوداني طويل حول الحدود، ومعارك النفوذ في مناطق مثل الفشقة والقضارف. ويزيد من ذلك تصاعد خطاب داخل الدوائر الإسلامية يقول إن إثيوبيا — بعد الثورة السودانية — دعمت قوى مدنية معارضة للجيش، وأن الرد المناسب هو دعم جهة قادرة على موازنة النفوذ الإثيوبي، مثل نظام أسياس أفورقي
والأخطر أن العقلية التي تدفع هذا التموضع ليست عقلية جديدة، بل هي استمرار مباشر لعقيدة الإسلاميين التي حكمت السودان ثلاثة عقود: خلق محاور مضادة، استثمار التناقضات الإقليمية، واستبدال بناء المؤسسات بتغذية الصراعات.
يبدو هذا واضحًا في الطريقة التي تُدار بها التفاعلات مع إريتريا: تحالف تكتيكي يعيد للأذهان الطريقة التي استخدم بها الإسلاميون تحالف سيليكا في إفريقيا الوسطى، أو دعمهم للانشقاقات في جنوب السودان. إنها الطريقة نفسها:
أزمة خارجية تُستخدم لحل أزمة داخلية
وحليف خارجي يُستدعى لمعركة محلية
وصراع إقليمي يتحول إلى امتداد للصراع السوداني.
ويقول محدثي الصحافي الاثيوبي المتابع للعلاقات السودانية الاثيوبية، ان حكومة آبي احمد مدت يدها لبورتسودان اكثر من مرة وحاولت قدر جهدها أن تقف موقفا محايدا في الصراع بين الجيش والدعم السريع، ولكن يبدو ان بورتسودان لم تنسى لابى انحيازه للقوى المدنية ودعمه لحكومة حمدوك ورفضه لانقلاب البرهان حميدتي على الحكومة المدنية ويمضي ليقول أن آبي زار بورتسودان في يوليو 2024 واعقب ذلك بفترة قصيرة بارسال وفد من مدير الاستخبارات ووزير الخارجية وكل تلك الزيارات، كان تهدف لشئ واحد عدم انتهاج سياسة الأذى بين البلدين، وهو ما وضح ان بورتسودان لاترغب فيه وانها تنسق بشكل وثيق مع الرئيس الارتري، بل انها تستضيف علنا مجموعات من محاربي التقراي وتسلحهم، وهو ما اعتبرته اديس ابابا اعلان حرب من طرف واحد، واختتم الصحافي الاثيوبي حديثه معي بعبارة حزينة قائلا: “للأسف الان العلاقة في أسوأ حالاتها وان البلدين وصلا مرحلة اللا عودة”
الفوضى كأداة حكم
عند النظر إلى هذه الساحات الثلاث معًا—إفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، والقرن الإفريقي—يمكن رؤية خيط واحد يجمع بينها: أن الحركة الإسلامية بنت مشروعها السياسي على إدارة الفوضى، وليس على بناء الاستقرار.
لم يكن الاستقرار في الجوار مصلحة بالنسبة للنظام، بل تهديدًا. فالدول القوية من حول السودان تعني حدودًا أكثر انضباطًا، ومجتمعًا سودانيًا أقل قابلية للسيطرة. أما الدول المفككة، فتعني المزيد من الأوراق التي يمكن تحريكها عند الحاجة.
هذا المنطق ذاته يعود اليوم بشكل جلي في سلوك السلطة الموجودة في بورتسودان. فرغم غياب المؤتمر الوطني كحزب، إلا أن طريقة تفكير الدولة ما تزال تحمل إرث ثلاثين عامًا من صناعة الفوضى. والانحياز إلى إريتريا ليس سوى مثال جديد على هذا الإرث.
فبدلًا من بناء سياسة إقليمية تقوم على التوازن والعمل الدبلوماسي، يجري الرهان مجددًا على طرف يميل إلى العزلة الدولية، وعلى صراع يرى فيه البعض فرصة لتقوية موقع داخلي، كما كانت الخرطوم تفعل دائمًا.
ومع استمرار الحرب السودانية، وعدم وجود مؤسسات ديمقراطية أو هياكل حكم مستقلة، يصبح هذا الإرث أكثر خطورة. فالفوضى التي كانت الخرطوم تُصدّرها إلى جيرانها، بدأت اليوم ترتد إلى الداخل، في شكل انقسامات، وصراعات، ومحاور داخل الدولة نفسها.
حقل تجارب
ما يظهر اليوم في مواقف بورتسودان ليس حدثًا معزولًا، بل امتداد طبيعي لمنهج قديم: منهج الإخوان المسلمين الذين جعلوا من الجوار الإقليمي حقل تجارب مفتوحًا. ومن إفريقيا الوسطى إلى جنوب السودان، ثم إلى القرن الإفريقي، ظلّ السودان يلعب دورًا أكبر من حجمه، وأكثر خطورة من قدرته، لأنه كان يفعل ذلك بعقلية لا ترى في الفوضى مشكلة، بل ضرورة
وما لم يحدث قطع كامل مع هذا الإرث—على مستوى الرؤية والمؤسسات والأدوات—فإن السودان سيظل عالقًا في حلقة مفرغة: يُصدّر الفوضى حينًا، وتعود إليه مضاعفة. والنتيجة النهائية واحدة: دولة تزداد ضعفًا، وإقليم يزداد اشتعالًا، ومكانة إقليمية تُبنى على الرمال لا على الثبات.
في نهاية هذا المسار الطويل من الفوضى الذي نسجه المشروع الإسلامي في الإقليم، ثم واصلت السلطة الحالية السير فوق خيوطه الممزقة، يتبدّى المشهد بوضوح لا يحتاج إلى كثير تحليل: السودان هو الخاسر الأكبر. فعلى الرغم من أن صُنّاع القرار — قديمهم وجديدهم — تصوّروا أن إشعال الحرائق في الجوار يمنحهم أوراق ضغط، وأن زعزعة إفريقيا الوسطى أو الجنوب أو الشرق يوفّر لهم عمقًا أمنيًا أو مكاسب سياسية، إلا أن الوقائع تكشف العكس تمامًا.
اليوم، يعايش السودان أسوأ كوابيسه: دولة ممزقة، اقتصاد منهار، مؤسسات متصدعة، شعب مشرّد داخل حدوده وخارجها، وحرب داخلية تصنع مع كل يوم جذورًا جديدة لتمزق طويل الأمد. فإذا كان النظام السابق قد اعتقد أن التحكم بالجوار يضمن بقاءه، فإن ما نراه الآن — بعد سقوطه وتفجر البلاد — يؤكد أن الفوضى التي صدّرها عادت إليه بأضعاف مضاعفة.
ثمن مضاعف
لقد دفع السودان ثمن هذه السياسات مرتين: مرة حين ساهم في زعزعة الاستقرار الإقليمي، ومرة أخرى حين عاد هذا الاضطراب ليتحول إلى حصار خانق. فالجوار الذي كان يمكن أن يكون سندًا اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا أصبح مصدر قلق دائم. إفريقيا الوسطى الغارقة في الصراع صارت طريقًا لتهريب السلاح؛ جنوب السودان الذي تعثر في بناء الدولة فقد القدرة على أن يشكّل رئة اقتصادية لسودان محاصر؛ والقرن الإفريقي الذي كان يمكن أن يكون نافذة تجارة وبوابة للسلام، صار ساحة مفتوحة لحسابات المحاور وأطماع اللاعبين الإقليميين.
لم يعد السودان يملك ترف اللعب بالنار على حدود الآخرين. لقد التهمت النيران البيت نفسه. والمفارقة أن الخرطوم وبورتسودان، بدلاً من مراجعة هذه العقلية التي دمرت البلاد، تبدوان وكأنهما تعيدان إنتاجها: الانحيازات الحادة، الرهانات قصيرة النظر، الاستثمار في خصومات الآخرين، والبحث عن مكسب تكتيكي ولو على حساب المستقبل.
لكن الحقيقة المرة أن السودان اليوم ليس في وضع يسمح له بالمقامرة بأي شيء. ليس لديه دولة مستقرة ليحميها، ولا مؤسسات قوية يستند إليها، ولا اقتصاد قادر على امتصاص صدمات الإقليم، ولا جيش موحّد يمكنه خوض معارك هناك وهنا. إنه بلد يبحث عن نفسه، مشرذم، منهك، يتنفس بصعوبة، ويعيش على أمل أن تتوقف حربه الداخلية قبل أن تتحول إلى فصل نهائي من تاريخه.
إن السودان — أكثر من أي وقت مضى — يحتاج إلى جوار مستقر يسنده، لا جوار متفجر يشدّه إلى الهاوية. يحتاج إلى شراكات تبني، لا محاور تهدم. يحتاج إلى سلام حقيقي في محيطه، لأنه فقد القدرة على تحمل صراعات الآخرين.
نهضة بالفوضى
وإذا كان الماضي قد أثبت شيئًا، فهو أن الأمن لا يُبنى على حدود الآخرين بل على الداخل، وأن دولة ممزقة لا تستطيع هندسة استقرار غيرها. السودان اليوم أمام حقيقة لا مهرب منها: لن ينهض إلا إذا توقف عن تصدير الفوضى، وبدأ في بناء شبكة مصالح مع جوار آمن، قادر على أن يكون عونًا لا عبئًا، وسندًا لا مصدر تهديد.
إن زمن استخدام الجوار كورقة ضغط قد انتهى، وزمن الاعتماد على الفوضى قد انقضى. السودان في لحظته الراهنة يحتاج إلى ما هو أبعد من الحسابات الصغيرة: يحتاج إلى رؤية جديدة تُدرك أن النجاة لن تأتي إلا من إغلاق أبواب الحريق، لا فتحها. وأن ما تبقى من الدولة لن يحتمل مزيدًا من المغامرات.
فالدول لا تنهض بالفوضى، والشعوب لا تبنى على رماد الجيران، والأمم لا تستعيد عافيتها عبر تفجير الإقليم. السودان، بكل جراحه، يحتاج اليوم إلى محيط هادئ يرمم ما تبقى فيه من حياة — قبل أن يبتلعها الخراب كله.