متاهة البارود  .. وثائقي يحكي قصة مغامرون تمتلى بهم سوح الوطن 

بقلم : الزين عثمان 

إنقلاب يتلوه انقلاب ووطن   كامل غارق في  “متاهة البارود” الوثائقي الذي بثته منصات إذاعة “هلا 96”  وللمفارقة  الإذاعة فقدت  موجتها ونقاط بثها من الخرطوم مثلها وكثير من المؤسسات التي قذفت بها الحرب بعيداَ 

يخبركم زهير حسن أحمد مقدم الوثائقي “إنها نفس البندقية التي سبق أن قسمت السودان إلى شعبين ودولتين. .والخشية كل الخشية أن تعيد التجربة مرة أخرى. لأنها لم تعد بندقية في مواجهة بندقية وإنما بنادق لا حصر لها. والبارود معبأ والزناد قريب.. والمغامرون تمتلئ بهم سوح الوطن”  

الوثائقي  حاول أن يضع النقاط على الحروف وهو يتتبع مسارات المتاهة حين يقول  أعدموا قادتَهم من الضباطِ العظام/ قادوهم بأقدامِ مصفَّدة.. وأعينٍ معصوبة… أوقفوهم في (الدِّرْوة) حيثُ ساحةُ الإعدام.. ثم أطلقوا عليهم وابلاً من  الرصاصِ/ هكذا تفعلُ بندقيةُ الحكم ما مَن لم يُقتل من الضباطِ الأَكْفاء فسيُحكمُ عليه بالسجن.. أو الطردِ من الخدمةِ أو مغادرةِ البلاد/ .. وكلُّ ذلك من أجلِ تثبيتِ دعائمِ الحكمِ أيضا ليخبرنا ان معركة اليوم هي أبنة الأمس البعيد هي المولود الشرعي للحظة فتحُ الجنرال عبود  شهيةِ الضباطِ المغامرين في القفزِ إلى مقاعدِ السلطة.. فقد تأكدوا أن الوصولَ إلى حكمِ البلادِ سيكون سهلاً كما فعل كبيرُهم الذي علَّمهم الانقلاب.. 

ففي أعوام حكم عبود الستة جرت ثلاثُ محاولاتٍ لإزاحةِ الجنرالاتِ الذين تمتّعوا بنعيمِ الحكمِ وسلطةِ الأمرِ والنهي ففي التاسع من نوفمبر سنة تسعة وخمسين.. وقبل إكمالِ الانقلابِ عامَه الأول شهدت العاصمةُ صراعاً داخلياً بين وُحداتِ الجيش..  

ففي شوارعِ أم درمان دار قتالٌ عنيفٌ بالذخائرِ الحية.. بين قواتٍ من سلاحِ المهندسين التي توالي المجلسَ العسكري من جهة.. وقواتِ المشاةِ التي يقودها المقدم علي حامد زعيمُ المحاولةِ الانقلابيةِ من جهةٍ أخرى.. 

هذا الصدامُ هو الأولُ في تاريخِ السودانِ حديثِ العهدِ بالإستقلال بين وحداتٍ تنتمي لجيشٍ قوميٍّ واحد.. عصفتِ المطامعُ والتنافسُ بين العسكريين بوُحدتِه وتماسُكِه وقوميتِه  

في  حقبة الجنرال نميري حاول هاشم العطا ورفاقُه في التاسع عشر من  يوليو عام واحدٍ وسبعين إزاحةَ جعفر نميري الذي طردهم قبل حين. وتصاعد عددُ ضحايا الجيشِ من الجيش.. حيث انقسمت القواتُ المسلحةُ بين مؤيدٍ ومعارض.. وفي بيتِ الضيافة سالت دماءُ ما يزيدُ عن الثلاثين من الجنودِ على أيدي إخوتِهم الجنود.. 

بعد فَشلِ المحاولةِ الانقلابيةِ أُقيمت محاكماتٌ عَجلى للعسكريين والمدنيين على حدٍّ سواء.. وقَتَل الرفاقُ الرفاق.. أحد عشر ضابطاً منهم هاشم العطا وفاروق حمد الله.. وسُجن وطُرد من الخدمةِ العسكريةِ ما يزيد عن الخمسةِ والخمسين 

حاولت الجبهةُ الوطنيةُ التي ضمت الأمة والاتحادي والإخوان المسلمين وعدداً من العسكريين أن تثأرَ من النميري.. في يوليو عام ستةٍ وسبعين.. وهو ما  سماه نظامُ مايو الغزوَ الليبي وحركةَ المرتزقة.

ولأن حكمَ العسكر لا يستقرُّ عرشُه حتى يراقَ على جوانبِه الدم.. فقد أُريق دمٌ كثير.. أوله دمُ قائدِ المحاولة المقدم محمد نور سعد الذي أُعدم في أغسطس بتهمةِ الخيانةِ العظمى….

وقُدم للمحاكمات تلتمية وستة وعشرين 326

واعتُقل ميتين وستاشر 216

أما مجموع القتلى من جنود المحاولة فبلغ عددُهم  سبعمية 700

أما نظام مايو فخسر تسعةَ ضباط

وثلاثةً وسبعين من ضباطِ الصفِّ والجنود

وفقد أثناء القتال خمسة عشر 

ثمانمائة روحٍ سودانية راحت سُدىً من أجلِ الحكم 

مع انقلاب الجنرال  البشير كانت البدايةُ مدهشةً نوعاً ما.. إذ لم تُسفحْ فيها دماءٌ كثيرةٌ جراءَ الانقلاب.. 

ولكن في الثالث والعشرين من أبريل عام تسعين  الموافق للثامنِ والعشرين من  رمضان قام ثمانيةٌ وعشرون ضابطاً من رُتبٍ مختلفةٍ تدعمهم عدةُ تنظيماتٍ سياسيةٍ بمحاولةِ الانقلابِ على النظامِ الجديد فشلت المحاولة. والسبب: معلومةٌ وصلت إلى أصحابِ الحكمِ الجديد قبلَ ساعةِ الصفر .

ما أن أُحبطتِ المحاولةُ التي قادها اللواءات خالد الزين وعبد القادر الكدرو ومحمد عثمان كرار ورفاقُهم حتى عُقدت محاكماتٌ عسكريةٌ ليس لها مثيلٌ في التاريخِ في السرعةِ وتجاوزِ مبادئِ العدالة لم تطلع شمسُ اليومِ التالي إلا وثمانيةٌ وعشرون ضابطاً قد ثَقَب الرصاصُ أجسادَهم.. لم ينتظر قادةُ نظامِ الإنقاذ حتى يتأكدوا من موتِهم.. رَكَموا الأجسادَ فوق بعضِها ثم أهالوا عليهم الترابَ في حفرةٍ أخفوا مكانَها طيلةَ ثلاثين عاماً….

ترمَّلت ثمانٍ وعشرون زوجة.. وتيتَّم مئاتُ الأطفال.. الذين لن يَرَوا آباءَهم إلى الأبد أما بقيةُ المشتركين في المحاولة فجَرت عليهم سُنّةُ الطردِ والسجنِ ..والتجريدِ من الرُتَب.. والحرمانِ من الحقوق 

شهد السودانُ تسعةَ انقلاباتٍ فاشلة.. بين سبعةٍ وخمسين من القرنِ الماضي وألفين وواحدٍ وعشرين .. بالإضافةِ إلى أربعةِ انقلاباتٍ اقتطعت 57 عاماً من تاريخ الحكم الوطني البالغة 69 عاماً كان المتضررُ الأولُ هو الجيش .. حيث تفكَّكت هياكلُه.. وضعُفت روابطُه الداخلية، وصار نهباً للمطامعِ والكيدِ  السياسي..

يتحمل عبود ونميري قِسطاً وفيرا من ضَعضعةِ المؤسسةِ العسكرية.. واهتزازِ مكانتِها وجَعلِها أداةً لكلِّ طامحٍ في صَوْلَجانِ السلطة لكنَّ الضررَ الأكبر على الجيش يتحمل وِزْرَه نظامُ الإنقاذ.. فقد قام بتسليحِ القبائلِ وإنشاءِ قوةِ الدفاعِ الشعبي والأمنِ الشعبي .. التي هي بمثابةِ أجسامٍ موازية للجيشِ وجهازِ الأمن.. كلُّ ذلك لرَدعِ الخصومِ والتنكيلِ بالحركاتِ المطلبية.. وإخضاعِ الجنوبيين وغيرِهم من مظلومي هوامشِ السودانِ المظلومِ مواطنوه قاطبة. 

كانت المتاهة تقودنا  والبلاد نحو الجحيم كان تحالفُ الشرِّ بين البرهان وحميدتي يقود إلى الهاويةِ الملتهبة.. الهاويةِ التي رآها الجميعُ وحذَّرت منها القِوى السياسية فمع التعديلاتِ التي بموجبِها منح البرهانُ حليفَه في انقلابِ أكتوبر صلاحياتٍ واسعةً وأعفاه من رقابةِ الجيش.. وأطلق لطموحاتِه العنان تجنيداً وتسليحاً وتشويناً وانتشاراً من أدنى البلادِ إلى أقصاها

كل ما سبق كان بروفةً للجحيمِ الكبير الذي تفجّر في منتصفِ أبريل ألفين وثلاثةٍ وعشرين… بسببِ مواجهةِ بندقيةِ الجيش لبندقية ِالدعمِ السريعِ الخارجِ من رَحِمِه.. ولا تزال البنادقُ تُلَعْلِع .. والوطنُ يتمزَّق.. والمواطنُ تشتدُ معاناتُه ويتشرد.. في الوطن.. وخارجِ الوطن.. بلا أفقٍ ولا مستقبلٍ ولا أملٍ في حلٍّ قريب.. فعند الطرفين المجدُ للبندقية

درسُ التاريخِ يقول.. إن السببَ في تخلُّفِ السودانيين الآن المسؤولُ الأولُ عنه هو الجيشُ وانقلاباتُه منذ فجرِ الحكمِ الوطني وصولاً إلى الخرابِ الأعظم في أيامِنا هذه 

ودرسُ الحاضرِ يقول.. إننا بين خيارين: البقاء في عتمةِ الواقع حيث حكمُ العسكر أو نستأنفَ المشروعَ الوطني ونلحقَ بمن سبقنا فنعيدَ العسكر إلى الثكنات.. ونشرع للمستقبلِ النوافذ.. ونفتح الأبوابَ لمقبل الأمل . ينتهي  فيلم “هلا” الوثائقي ويستمر فيلم معاناة  شعب وجيش ووطن مع  بندقية العسكر  وطموحات الضباط لتحقيق احلامهم وصناعة مجدهم الشخصي.

 

Exit mobile version