سودانا يهز القلب قبل الأرض

بقلم: طارق فرح

﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾

آية تختصر ما يحتاجه السودان اليوم: حكمة تتقدم على السلاح، وشجاعة توقف نزيفٍ طال، حتى أوهن البلاد وأوجع العباد.

جلستُ إلى جوار والدي الثمانيني في بلاد النزوح القسري، نحمل الوطن في صدورٍ أثقلها الشوق والفقد، لمتابعة مباراة السودان ضد لبنان، والتي انتهت بفوز السودان بهدفين مقابل هدف. كنا نجلس، وحالُنا حال الكثيرين من فرّقتهم الحرب ومزّقت بهم السبل، يحملون وطنهم في قلوبٍ أنهكها الغياب وطالت عليها المنافي. لم تكن المباراة مجرد لحظة فرح، بل نافذة صغيرة على وطن نتشبث بصورته كلما ضاق بنا المكان. وحين أطلق الحكم صافرة النهاية تعالت الهتافات، في الاستاد وفي كل بيت سوداني كان يشاهد المباراة: “بالطول بالعَرْض… سودانا يهز الأرض”. التفتُّ إلى والدي، فوجدته يغالب دموعه، لا لأن السودان انتصر في مباراة، بل لأن الوطن انهزم في واقع الحرب. دموعه لم تكن ضعفًا، بل لغة رجل عرف معنى الفقد: فقد الزوجة، وفقد الوطن، وفقد الأماكن التي كانت تمنح الحياة معناها البسيط وطمأنينتها العميقة.

رغم قسوة الأيام، جاءت لحظة الفوز تلك لتقول شيئًا مهمًا: السودان لا يزال قادرًا أن ينهض. ولأجل ذلك، يستحق صقور الجديان اولاً تحية الفخر والامتنان؛ أولئك اللاعبون الذين لعبوا في ظروف قاسية، بعيدين عن وطن جريح، رغم المنفى والضيق حملوا اسم السودان عاليًا وقدموا أداءً بطوليًا يُشبه صبر هذا الشعب وصلابته. شكرٌ مستحق لا مجاملة، لأنهم أعادوا إلينا لحظة فرح كنا نبحث عنها في ظلام الحرب.

وإذ نحتفي بهم، لا ننسى أن نبادل الشكر كل الدول والشعوب التي فتحت أبوابها للسودانيين الذين نزحوا ولجأوا إليها؛ دولٌ احتضنت أرواحًا مُتعبة ومنحتهم مساحة حياة حين ضاقت بهم الأرض في وطنهم.

الحرب لم تكن مجرد نارٍ أحرقت الناس والبيوت؛ كانت ريحًا عاتية اقتلعت تفاصيل الحياة من جذورها، وغيّرت الطرقات والأماكن التي حفظناها، وشوّهت الملامح التي ألفناها. صار أقصى ما نرجوه هو الحدّ الأدنى من الحياة: بيتٌ يعود إليه أهله، طفلٌ ينام في سريره لا في خيمة، شيخٌ يمضي إلى عباداته لا إلى طابور معونات، وأمٌّ تجد أمانها وطمأنينتها لا رحلة قلقٍ يومية بحثاً عن مأوى وسلام. هذه ليست مطالب سياسية، وليست ترفًا… هذه أبسط حقوق الإنسان، وهي الحياة التي يستحقها السودانيون.

لقد أثبت تاريخ السودان، في كل مراحله، أن الحروب مهما اشتدت لا تنتهي إلا بالتفاوض. فلماذا نعيد المشهد ذاته؟ لماذا ننتظر مزيدًا من الدم قبل أن نُحكِّم العقول؟ لماذا لا نجلس كسودانيين… لا كجيوش ولا كحركات ولا كأحزاب… كسودانيين فقط، يجمعنا وطن يسع الجميع إن أردنا له أن يسع الجميع.

 

قال حميد:

أرضاً سلاح.. أرضاً سلاح

ترحل هموم

تنصان دموم

والبال يرتاح

أرضاً سلاح

وينفتح باب الصلاح

ينفرج هم القلوب

تتندى بالأمل المباح

النداء اليوم موجَّه لكل الأطراف… للمقاتلين أن يضعوا السلاح، وللسياسيين أن يبتعدوا عن الإقصاء، ولمن يرفعون شعارات السلام أن يجعلوها فعلًا لا قولًا. اجعلوا للعقل مكانًا، وللوطن فرصة، وللإنسان حقًّا في الحياة. فهذه حرب لا يخرج منها منتصر… الخاسر فيها واحد: السودان وأهله.

نجلس اليوم وقلوبنا تفتقد أحبّتنا الذين رحلوا بعيدًا عن وطنهم. نترحم على والدتي، وعلى كل من ماتوا خارج السودان، وعلى كل روح بريئة أزهقتها الحرب بلا ذنب. ولأجلهم، ولأجل من تبقى، اجلسوا إلى طاولة واحدة، لا ليُهزم طرف وينتصر آخر، بل لينتصر السودان نفسه.

حين تردّد الهتاف: “سودانا يهز الأرض”، نظرتُ إلى أبي، وفهمت أن الأرض الوحيدة التي تهتز حقًا هي قلوبنا المنهكة. هذا الوطن يستحق أن يعود لأهله، وهذه الدموع تستحق أن تجف في بيوت آمنة. أوقفوا الحرب… دعوا السودانيين يعودون إلى ديارهم، إلى حياتهم، وإلى الأماكن التي لن يموتوا فيها من أجل البقاء.

Exit mobile version