من فظائع النزاع إلى الجرائم اليومية.. ما فعلته بنا الحرب وما لم تفعل

أعقاب قصف مروع في كلوقي، بجنوب كردفان، الأسبوع الجاري، أودى بحياة العشرات من الأطفال والنساء، تصاعدت تحذيرات أممية من فظائع جديدة في كردفان تشمل إعدامات ميدانية وعنف جنسي. في الدبة شمالي السودان تتكشف مآسي العنف الجنسي إبان النزاعات في أقسى صورها؛ إذ وثقت المراصد الإنسانية اغتصاب 19 من النساء بينهم امرأتان حاملتان، وصلن إلى المنطقة من الفاشر النازفة. وفيما يستمر النزيف جراء الحرب في السودان تنفتح كوة الانفلاتات الأمنية في سائر أرجاء السودان. ويلحظ المراقبون تنامي وتيرة حوادث السرقات والنهب عبر نقاط تفتيش غير قانونية، بينما وثقت منظمات حقوقية اعتقالات تعسفية واحتجازات لأغراض فدية في الفاشر وشمال كردفان، واستمرار العنف الجنسي والسرقات في الجزيرة وشرق السودان. هذه السلسلة من الانتهاكات، التي تتجاوز النزاع المسلح إلى جرائم جنائية منظمة، تُعزز الشعور العام بانفلات أمني أصبح سمةً للمرحلة. وتضيف حادثة كسلا الأخيرة، التي هزت المدينة شرقي السودان يوم 6 ديسمبر الجاري، طبقة أخرى من الرعب، حيث اعتقلت الشرطة ثلاثة رجال متهمين بسرقة أسرة نازحة واغتصاب امرأة شابة.

وفي سياق مشابه، تتواصل جرائم الابتزاز والاختطاف في دارفور، خاصة بالفاشر، حيث يحتجز مقاتلو الدعم السريع مئات المدنيين ويطالبون أسرهم بدفع فديات أو يواجهون الإعدام، مصحوبة بتعذيب وعنف جنسي، كما روى ناجون وثقت قصصهم تقارير حديثة؛ مما يجعل المدينة مسرحاً لانتهاكات مستمرة تُعيق حتى وصول المساعدات. 

وبالنسبة للكثيرين فإن الانفلات الأمني بات سمة للمرحلة، لكن الوقوف عند وصف المأساة وإثارة الرأي العام، كما حذّرت منه سلطات كسلا، ليس كافياً. فجولة عابرة على منصات الوسائط، ومجموعات الواتساب كفيلة لجعلنا نطرح السؤال الملح: كيف نبني ردعاً فعالاً ونستعيد الأمن في ظل دولة منهكة بالحرب؟

بالنسبة للمراقبين فإن  الإجابة تبدأ بالاعتراف بأن الانفلات الأمني ليس فقط مجرمون ملثمون يحملون أسلحة بيضاء في أطراف المدن، إنما هي أيضا جرائم منظمة كالابتزاز والاختطاف لدفع الفدية، وعصابات تستغل الفراغ الأمني لنهب المساعدات، وتفلت مسلحين يرتدون الزي العسكري في قلب المدن.. هذه الصورة المركبة تُظهر أن المواجهة تتطلب استراتيجيات مركبة أيضاً.

والخطوات نحو الحل تكمن كذلك في تفعيل العدالة المحلية السريعة، فحادثة كسلا تقدم نموذجاً أولياً يمكن تحسينه، عبر سرعة تحرك الشرطة وتشكيل فرق بحث متخصصة تحت إشراف النيابة، لكن تسريع الإجراءات وإعلان نتائج التحقيقات والمحاكمات النموذجية العلنية كفيلة بتحقيق الردع وطمأنة المجتمع، وقديما قيل: العدالة البطيئة تفقد مفعولها.

لكن سؤوالا أخطر يعصف بالبال والمجتمع: هل أدى الانتشار الكثيف للمسلحين في المدن، حتى بزعم الحماية، إلى تحقيق الأمن أم ساهم في نثر بذور الفوضى؟ 

لا تخرج الإجابة بالطبع عن أن المطلوب الآن هو خطة واضحة ومعلنة لإخراج كل التشكيلات المسلحة غير النظامية من المدن وتسليم ملف الأمن الداخلي لشرطة مدنية مدربة تدريجياً، وفي الوقت ذاته، معالجة جذور الإجرام المنظم.

في الأثناء يجدر التذكير بأن جرائم الابتزاز والنهب المنظم تغذيها دوافع اقتصادية في مجتمع منهار، لذا فإن أي حملة أمنية يجب أن تقترن بفتح ممرات آمنة للإغاثة ومشاريع دخل سريعة للمجتمعات الأكثر تضرراً، لقطع الطريق على اقتصاد الحرب والجريمة. 

وكذراع مساندة للشرطة وليس بديلاً عنها، يمكن تفعيل دور الإدارات الأهلية والقيادات المجتمعية الموثوقة في جمع المعلومات والوساطة وحل النزاعات المحلية، وهذا يبني جسور ثقة ويواجه خطاب العنف، على أن تسبقها عملية نزع شرعية اقتصادية وسياسية للمليشيات.

ومن نافلة القول إن استعادة الأمن ليست فقط مسألة اعتقالات وقوات، حيث أنها عملية بناء مجتمعي تعيد هيكلة الدولة لصالح المدني، وتعيد الثقة بين المواطن ومؤسساته، وتعالج روافع الاقتصاد الإجرامي.. المؤكد أن الطريق طويل، ولكن البدء بنماذج ناجحة ومحسوسة، قد توقد جذوة الأمل وتعيد تعريف معنى (المناطق الآمنة)؛ أهي المناطق الخالية من القتال أم المناطق التي يمكن العيش فيها بأمان؟

 

Exit mobile version