حكاية من بيئتي  (18) كمسود أسى

محمد أحمد الفيلابي

ها هم يعودون إلى المنزل القديم هرباً من جحيم الحرب هناك. لا شوقاً إلى الحياة هنا، لكن المهم أنهم عادوا إليها بعد أن انزوت لسنوات طويلة بمهارة في ذلك الركن القصي من بيتها العتيق تغزل قطنها خيوطاً تكوّرها، وعلى (مُترار) الأيام تكوّر أرتالاً من الأسى. كمسود الأسى (1) الذي لن تجد له سوقاً، مثلما تجد لقفتها المليئة بالكرات البيضاء. كان (الخواجة) في المدينة يرحب بها بشكل خاص، ويؤكد لها في كل مرة..

ــ كل غزلك يمشي المنسج، ما فيش بابور ولا علال، ولا غيرو. 

ترقبه في صمت وهو يزنه، ويضعه في مكان خاص قبل أن ينقدها المقابل المالي وهو يضحك..

ــ لو الخواجة (ممتاز) (2) شاف غزلك يديك البرنجية على طول يا حاجة. بس لو تضحكي لي الدنيا تضحك لك.

تعلم أنه ربما يقول ذلك لكل من تأتيه من نساء المدينة والقرى. كما توقن أنه لابد أن يكون هناك من الخيوط ما يتم فتله ليصبح جزءاً من مكونات بابور الجاز، أو تلك المصابيح التقليدية، نسميها (اللمبة أم ضنيب أو أم علال). أما ما يدخل المنسج فهو عدد من المصنوعات القطنية، على رأسها أغطية ليالي الشتاء، ولفحات برد الفجر حتى في ليالي الصيف. وبعض الملافح والشالات، وغيرها.

ودون أن يسألها تمنحه ما تعودت أن تجلبه له من ثمرات سنطتها. يقول إنه يستخدمها لأغراض طبية عديدة لا يبوح بها.

تعود من هناك محملة بما تحتاجه، مع كمسود جديد من القطن. تعكف عليه أولاً لتخلص منه (الغُلغُل) (3) لتقضي نهاراها في ظل سنطتها الأثيرة. أما المساء فممنوح لنقض غزل الحكايات القديمة، ومحادثة النجوم ريثما يغشاها الكرى.

لا أحد يدري إن كانت السنطة قد وجدت قبل الجدة أم بعدها. وقد قاومت كثيراً محاولات قطعها، مثلما قاوم أباها هجر بيته القديم القريب من المزارع، مثلما فعل الكثيرون عندما داهمهم التساب. وقد كان، ولا يزال آخر البيوت الواقفة في محاذاة الترس القديم، ما سمح للسنطة أن تنعم بالماء طيلة أيام ذلك الفيضان، والفيضانات التالية، فبعض فروعها المتدلية تنغس في الماء لكأنها تساعد الجذور المتمددة أسفل الترس في رفع المياه إلى الأعلى. 

عادت البيوت إلى المنطقة، بعد زوال آثار الفيضانات اللاحقة، وتغطت المنطقة بأكملها بالمنازل الحديثة، عدا هذا منزل الجدة، المميز بشكله القديم، وسنطته داكنة الخضرة القائمة على السور. تشاركها المنزل أسرتان، بنتها الأرمل وأبنائها. وأصغر أبناءها مع أسرتها الصغيرة. ستة أحفاد، ليسوا كأحفاد الأزمان الغابرة، يوادون الجدات. فهؤلاء ينشغلون بالشاشات الصغيرة في أيدهم، وتلك المعلقة على الجدران. أما من عادوا بعد الحرب، فقد باتوا لا يتحلقون إلا في حال إنقطاع التيار الكهربائي. 

الكثيرون يربطون بين الشجرة والجدة، وهذا التلاحم المستدام، والحماية المتبادلة، والعطاء بلا من أو أذى. قالتا لبعضهما سنحيا لأن هناك من نحب أن نبقى معهم أطول وقت ممكن، ولأن علينا واجبات يجب أن نؤديها. ومنحت كل منهما بقدر ما تستطيع.

في أول المساء الثالث لقدوم هؤلاء كانت تترقب ظهور ذلك النجم بين فروع السنطة، تلاعبه الأغصان إخفاء وإظهاراً بفعل حركة النسيم في الأعالي. وهجست في نفسها أن نحن من ذاك المقام، وها قد أحرزنا البرنجية كما كان يقول الخواجة زكي وترددت هل تقول الله يرحمه أم ماذا.. وأسكنت مخاوفها بمفهوم أن الرحمة تجوز لي كل ميت وحي. البيوت التي كان يرفضها الأبناء باتت ملاذاً لهم بعد الحرب. وظل السنطة التي نجت من الفأس أصبح ملعباً للأطفال خارج الدار، ومقيالاً لمن هم بالداخل.. يتحلقون حول مرقدها، ينشغلون بما في أيديهم. وبين الفينة والأخرى يتداولون أخبار الحرب والموت والدمار والمرض.

وفجأة خرج منها الصوت..

ــ نحن حُزنا البرنجية نحمد الله.

التفتوا إليها في ريبة، تحت ستار الظلمة يخفى ما علا وجوههم. منهم من ظن أنها دخلت للتو مرحلة الخرف، ومن ضحك في سره.. بيد أن ابنها قام إليها وتطلع في عيونها ليقرأ ما ترجم سعادتها باحتواء الدار لهم. 

ــ ما تقول أمك خرفت.. أنا زعلانة لي زعزعتكم.. بس فرحانة بي شوفتكم..

فأيقن أنها في حالة وجد وصحو مدت يديها اليه، وعانقه دون أن تقوم من رقدتها.

كانت تفكر.. إلى أين كان سيلجأ هؤلاء فيما لو كانت قد وافقت في ذلك اليوم البعيد على قطع السنطة وهدم الدار، أو الرضوخ لإغراءات الجار الذي ظل يلاحقهم حتى يبيعونه الدار..  لا بقصد التوسُّع، فداره واسعة بما يكفي، بل لأنه يرى في دارهم ما يشوه مظهر داره. وتساءلت في نفسها.. هل كان هذا السعيد بالنعمة المفاجئة سيفتح داره لهم؟ وتمتمت فيما يشبه الهمس..

ــ الما بتلقى في بيت أبوك بخلعك (4).

وحمدت الله مئات المرات قبل أن تسلم جفنيها للكرى.

إلا أن الإبن لم يستطع النوم، فظل يبحث عن سر تعلق أمه بالشجرة ليقرأ أنها ظلت شجرة السنط منذ آلاف السنين تنمو من دون مساعدة من البشر، إلا فيما يخص حمايتها. أما غرسها وإنباتها فشأن طبيعي. إذ يكفي أن تسقط ثمارها فتلتقطها الماشية لتتمّ في أحشائها المعالجة الكيميائية للبذرة فتصبح بالتالي جاهزة للإنبات ما إن تخرج مع مخلفات الماشية. وتأتي الحشرات لتلتهم ما حولها وتتركها عرضة لوطء الحوافر، فتنغرس في التربة لتنبت وتصير شجرة بعد موسم من الغمر في المياه. هكذا، أثبتت الحفريات أنّ الفراعنة استخدموا خشب السنط في أعمال النجارة ولحاءه في الدباغة وأوراقه وأزهاره في أغراض طبية، فهو استُخدم كدواء لمعالجة اعتلال الجسد والقضاء على الدود والسعال وتورّم القدمَين وتسكين ألم العظام المكسورة.

ولأنّها تتميّز بصلابة خشبها وخصائصها الطبية المتعددة، فإنّ العبرانيين قدّسوا هذه الشجرة في الأزمنة الغابرة. ومثلما تحتمي بها الطيور المهاجرة من شمال القارة (الأفريقية) في فترة الخريف، يحتمي بها فقراء بلادي من الرعاة والمزارعين، بينما يستخدم سكان الجوار النيلي وصيادو أسماك أخشابها المتينة في صناعة قواربهم وأسقف مساكنهم وأثاثهم. هؤلاء كذلك استخرجوا من لحاها وثمارها عقاقيرهم، ومواد يدبغون بها جلود الحيوانات المستخدمة في نقل وتخزين الماء والحبوب وغيرها. وفي أحيان كثيرة، يُستخدم جذع هذه الشجرة في صناعة المناحل وفي بناء السياجات الحامية لبيوت الفقراء والمزارع. 

في الصباح الباكر جلس إلى جوارها يتناول كوب الشاي، فسألها إن كانت لا تزال تذهب إلى سوق المدينة. فحدثته عن موت الخواجة زكي الذي كان يشتري منها الغزل، وقد خلفه أحد أبنائه الذي لم يرق لها التعامل معه. كما أنها باتت لا تقوى على ذلك المشوار. فباتت تبيع ما تسطيعه لأحد أبناء القرية الذي جاء بمنسج خشبي ركبه في بيته، وظل يعمل عليه، ويورّد القطن الخام لمن لا زلن يمارسن الغزل. ومع تبدّل الأحوال وتفضيل الناس المنتجات القادمة عبر الحدود، كسدت تجارته، فآثر أن يمارس نشاط صناعة المراتب والألحفة القطنية.

وامتد بهما الأنس ليتعرف هذا العائد على ما اعترى حياة القرية من تحولات على كافة المستويات. وأن هناك تغيرات لاحقة بسبب الحرب التي أعادت الكثيرين إلى الأرياف، هذا إن لم تصل إليهم الحرب حيثما لجأوا..

ــ فال الله ولا فالك..

وضحكت وهي تضم كفه بيديها المعروقتين، رفعهما ليطبع عليهما قبلة، وتذكر تلك المقولة الخالدة “نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه” .

الهوامش:

الكمسود.. لعلها من مفردات القائمة الحمراء المهددة بالانقراض، تشير إلى كومة ملابس ملفوفة بطريقة غير منتظمة، أو كومة قطن خام.

ممتاز باشا هو من زرع القطن في دلتا طوكر عام ١٨٦٥

الغُلغُل عرق الشجرة المتعمق في الأرض.. ويشير المعني هنا إلى بذور القطن، التي يستخرج منها زيت نباتي عالي الجودة، بجانب أستخدام مخلفات الصناعة كعلف للحيوانت غني بالمغذيات.

مثل يضرب لمن تهبط عليهم النعمة فجأة، ولا يحسنون الشكر.

 

Exit mobile version