السودانيون حين يعاد رسم الإنتماء على خطوط الملعب

الزين عثمان

كان يمسح دموعه سريعاً بمنديل، محاولاً أن يخفي ما انكسر في داخله وهو يردد بصوتٍ يرتجف: «كفاية إننا اجتمعنا… لم نخسر، نحن انتصرنا باستعادة وطننا.»

هكذا بدا ذلك المشجع السوداني في ملعب الريان بالعاصمة القطرية الدوحة بعد هزيمة صقور الجديان أمام المنتخب العراقي بهدفين. كان يقول بثقة العارف: «نحن نستحق وأحوج ما نكون للفرح”.»

هناك، في ملاعب قطر، لم تعد المدرجات مجرد مقاعد تطل على عشبٍ أخضر؛ صارت أرضاً رحبة تتدفّق إليها أرواح السودانيين بما تحمله من شغفٍ وحنين وأمل. فمنذ أن عبر المنتخب حدود المنفى ووصل إلى ساحات البطولة، بدا وكأن نبضاً جديداً سرى في عروق جموعهم، يوقظ تلك الروح القديمة التي لا تخمد مهما أثقلتها الصعاب.

كان السودانيون يسيرون نحو الملاعب بقلوبهم قبل خطواتهم. الأعلام تلفُّ الأكتاف، والوجوه تضيئها مسحة أملٍ عنيد. يكفي أن يلمع القميص الأحمر أو الأخضر حتى تتعالى التحايا: «سلامات يا زول!» قبل أن تضيع في هديرٍ آخر: «بالطول بالعرض… سودانا يهز الأرض!»

في لحظة عزف النشيد «هذه الأرض لنا» كانت عاصمة كرة القدم العالمية تهتزّ، وكأن آلاف السودانيين يستعيدون أوطانهم الضائعة عبر الكلمات التي يرددونها بقلوبٍ تحترق شوقاً.

حين ينطلق النشيد السوداني، تقف المدرجات كأن قطعة من الخرطوم أو أم درمان قد انتُزعت من مكانها ووُضعت هناك في الدوحة. أصوات تختلط، رجال يلوّحون بالأعلام كما لو كانوا أطفالاً، نساء يضربن بالدفوف بإيقاع التراث، وأطفال يرفعون صور اللاعبين كأنهم أبطالٌ من أساطير بعيدة.

لم يكن المشهد مجرد تشجيع؛ كان محاولة جماعية لحبس الحنين، لالتقاط الوطن من الهواء، لضمّه في هتافٍ يعلو نحو السماء محمّلاً بروائح المطر على تراب السودان.

لم يكونوا مجرّد مشجعين عابرين؛ كانوا أبناء وطنٍ وجدوا في مباريات منتخبهم نافذة يقولون من خلالها للعالم: «نحن هنا… باقون، متجذّرون، نحمل السودان في قلوبنا.»

صارت الملاعب ساحات تعارف: شباب من دارفور يحتضنون رجالاً من الجزيرة، أسرٌ من الشرق تلوّح لأناس من الشمال. لم يبق سوى لون واحد يوحّد الجميع: لون الوطن.

لم يكن حضور السودان في قطر حدثاً رياضياً، بل كان حالة وجدانية عميقة. صار المنتخب نافذةً يطل منها السوداني على وطنه البعيد، وصار المدرج مكاناً للتنفيس ولمّ شتات الروح.

أثبت السودانيون أن الكرة ليست لعبة؛ بل لغةٌ تعيد تشكيل الوجدان كلما ضاقت المسافات، وأن المنتخب رغم كل التحديات يظل رمزاً يجمعهم كما لم تجمعهم أمكنة أخرى.

كانت تلك اللحظات الصغيرة إعلان حبّ جماعي، فيه شيء من الفرح، وشيء من الاعتزاز، وشيء أكبر من انتماء يعيد للروح بعض استقرارها في زمن الاضطراب. وكان تواصل الجماهير مع لاعبي الفريق، بعد الانتصار أو التعادل أو حتى الهزيمة، دليلاً على أن الوطن ليس فرحاً فقط، بل هو مشاركة في الحزن أيضاً… حزنٌ نبيل.

ولم يكن حال من يرتدون القميص داخل الميدان مختلفاً. كانوا يحملون وجع الحرب نفسه، ينظرون إلى المباراة كنافذة تعيد لهم ضجيج الحياة في أم درمان والخرطوم وجنوب الحزام. يعرفون قسوة أن يُعزف النشيد وأنت بعيد عن الأرض، بينك وبينها آلاف الأميال.

وصل المنتخب إلى قطر بعد أن صارت ملاعب القارة كلها ملاعب افتراضية له: جوبا، ليبيا، موريتانيا، المغرب… رحلة أخرى من النزوح، لكنها لم تمنع لاعبيه من رفع الراية خفاقة في البطولات، وكأنهم يرددون: «السودان لا يليق به الغياب وحضوره يجب ألا يقتصر على المآسي.»

في زمنٍ أثقلته الحرب، وارتجفت فيه البيوت على وقع الخوف، احتاج السودانيون إلى ضوء. ضوء لا يبدّد الظلام فقط، بل يطمئن القلب، ويردّ للروح قدرتها على الفرح. وهكذا صار المنتخب بكل تواضع إمكاناته نافذة واسعة للأمل، وحلماً لا يريد الناس أن يتركوه. يردد نجومه: «نخوض حربنا الخاصة لنقول إن السودان ما زال موجوداً وما زال قادراً على الوقوف.»

حين ينتصر المنتخب، يخرج اللاعبون قائلين: «هذه فرحتنا لكم في زمن الحزن وحين يخسرون، يسبقهم الاعتذار: «آسفين… لم نمنحكم الفرح الذي تنتظرونه

في البيوت التي هدمتها الحرب أو غادرها أهلها، يصبح التشجيع طقساً يعيد الحياة: أسر تجتمع حول شاشة صغيرة، جيران يتقاسمون الكهرباء من مولد، أطفال يصرخون بأسماء لاعبين عرفوهم منذ أيام، كأنهم إخوة أكبر فتحوا لهم باب الفرح.

وفي نادي المشاهدة، فوق بساطٍ مهترئ مفروش على الأرض، يجلس الناس ينتظرون لحظة واحدة تشرّع لهم أبواب الفرح تسعون دقيقة قد تنتهي كما انتهت عند تلك السيدة السودانية في ملعب الريان، حين بللت الدموع وجهها وقد ارتسمت الراية على خديها. كانوا يبكون الوطن لكنهم واثقون أن يوماً ما سيأتي الفرح وفي كل الأحوال، يشكرون منتخبهم لأنه أعاد رسم القصة على نحوٍ بسيط وواضح «الوطن هو أن تنسى خيباتك القديمة، وتبدأ أملك من جديد..

 

Exit mobile version