أنهيار الأمل: قصة رئيس خسر قبل أن يبدأ السباق

أفق جديد

في لحظة سياسية مثقلة بالتشظّي والدماء، خرج كامل إدريس، رئيس الوزراء المعيّن من قبل الفريق عبد الفتاح البرهان، ليعلن أنه «سيقف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية»، لكنه سيُلغي تلك المسافة «مع الشعب السوداني». كلماتٌ أراد لها أن تُشكّل جسر الثقة نحو مشروع وطني جامع، وأن تعلن عن رجل لا يريد أن يكون «حاكماً» بل «خادماً» لأمّة أنهكتها الحرب.

غير أنّ المفارقة الأشدّ وقعاً، أنّ هذا الخطاب جاء متقاطعاً مع ذكرى يونيو؛ الشهر الذي شهد سقوط السودان في قبضة الإسلاميين قبل أن يسقط الوطن نفسه في درك الانهيار.

كامل إدريس، الموظف الدولي السابق الذي احتفظ بحلمه القديم في بلوغ كرسي الرئاسة، وصف تلك المسافة التي يقف عندها بين أطراف الأزمة بكلمة واحدة: الأمل. أملٌ بدا شاحباً أمام بلدٍ غارق في حرب أهلية وتمزّق اجتماعي، ليأتي تعيينه—بعد شغور المنصب منذ استقالة عبد الله حمدوك عام 2022—كمحاولة لمنح وجه السلطة العسكرية مسحة مدنية تخفّف من خشونتها المتفاقمة.

لكن الرئيس الذي جلس على مقعد حمله الشارع ذات يوم في ذروة الثورة، وجد نفسه يُلقّب منذ يومه الأول بـ«سكرتير الانقلاب»، رغم إصراره على التأكيد أن حرب أبريل «وجودية».

ها هو إدريس، في شهره السادس في بورتسودان—العاصمة المؤقتة—يواجه حرباً من الذين هلّلوا لمجيئه ذات يوم، ورأوا فيه فاصلاً بين سودان الخراب وسودان النهوض. يعود السؤال الآن بقوة: هل فقد أنصار «حكومة الأمل» أملهم في كامل؟

ما عاد الرجل في نظر كثيرين مناسباً لمرحلة بهذا الثقل. فمنذ تولّيه منصبه، لم يظهر إلا في قضايا انصرافية، يطلّ حين لا ضرورة، ويغيب حين يحتاج الموقف إلى رجل دولة. بدا باهتاً، بكاريزما مُجهَدة لا تشبه اللحظة الوطنية ولا تطلعات شعب يفتّش عن قبس ضوء في عتمة المستقبل.

ولم يعرفه السودانيون إلا عبر حاشيته؛ مجموعة كشفت بوضوح حجم تصدّع الدولة وهشاشة مؤسساتها التي غاب عنها معيار الكفاءة وحضر الولاء الشخصي. حتى الصحفية المقرّبة من دوائر السلطة في بورتسودان، رشان أوشي، وصفته بـ«العبء الوجودي». وكتب الصحفي الطاهر ساتي—أحد من بشّروا به سابقاً—قائلاً: «الرجل طيب ومهذب، ويتقن ثلاث لغات، لكنه ليس رجل دولة». ثم أضاف ساخراً: «إن كان سيُعفي ستة وزراء لفشلهم، فمن باب الامتياز أن يكون هو سابعهم».

ومع تزايد الحديث عن رغبته في إضافة لقب «رئيس وزراء السودان السابق» إلى سيرته الذاتية، يبرز السؤال: هل باتت أيام كامل إدريس في الكرسي معدودة؟

لم تكد تهدأ الانتقادات حتى انفجرت أزمة أخرى، بعد ما تم تداوله عن اتصال أجراه إدريس بمراسلة قناة «العربية» و«الحدث» بشأن رفع الحظر عن القناتين، رغم أن وزير الإعلام خالد الأعيسر كان قد سحب ترخيصهما سابقاً. تلك الخطوة دفعت الوزير إلى وصف الحكومة بأنها «حكومة العلاقات الشخصية»، لا حكومة مؤسسات وقانون.

في شهرها السادس، تبدو حكومة كامل إدريس واقفة فوق تلة من الإخفاقات. فالسياق نفسه لم يكن مؤهلاً لنجاحها: سلطة مفروضة من أعلى، بلا توافق، بلا مؤسسات داعمة، وبجغرافيا نفوذ تتآكل يوماً بعد يوم بفعل الحرب. كل ذلك في عاصمة مؤقتة ووسط انهيار اقتصادي وأخلاقي يتعمّق مع تفشي الفساد المحمي والمقنن.

اقتصادياً، لم تُسجَّل أي نتائج تُذكر: التضخم يحاصر الناس، ضعف الإنتاج يخنق الحياة اليومية، ولا أثر لسياسة تعيد الثقة أو الأمل. أمنياً، لم تتمكن الحكومة من بسط سيطرتها في العاصمة أو المناطق المتضررة، فبقيت الدولة عاجزة عن حماية نفسها قبل أن تحمي مواطنيها.

إلى جانب ذلك، أثارت زيارات إدريس المثقلة بالطابع الاجتماعي—لا السياسي—انتقادات واسعة؛ من عودته من السعودية دون لقاء قياداتها، إلى ظهوره في شوارع أسمرا وهو يهتف للرئيس أسياس أفورقي، وصولاً إلى صورة حكومة «التوجيهات» التي لا تجد طريقها إلى التنفيذ. حكومة بلا سلطة حقيقية، غير قادرة على إعادة النازحين ولا حتى على إعادة مسؤوليها إلى الخرطوم.

لا يبدو فشل حكومة كامل إدريس مفاجئاً بقدر ما يثير العجب من دهشة بعض مؤيديها. أولئك الذين باعوا للناس «أملاً براقاً» عادوا اليوم لمهاجمة حامل ذلك الأمل نفسه، الذي يبدو أنه يسير بخطى متسارعة نحو السقوط من الكرسي الذي سعى إليه طويلاً والذي تؤكد المسارات الأخيرة من التناول انه سيغادر بذات باب دخوله الرجل الذي أرسل إليه تذكرة الوصول لبورتسودان سيعيده مرة أخرى لبرودة طقس سويسرا .

إنها قصة رجلٍ أراد أن يكون جسراً لمرحلة جديدة، فإذا به يتحول إلى مرآة تعكس عمق الأزمة، لا بوصفه صانعها بل بوصفه إحدى نتائجها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى