في تكريم المهندس عوض الكريم محمد احمد

القوى السياسية والنقابية تفتح طريقا جديدا نحو الغد

نقاشات ومجادلات .. والخلاصة الاجماع ضرورة لاترف

أفق جديد

“سوا بنقدر”… ليس مجرد شعار، بل خلاصة ساعات مكثّفة من النقاش الجاد الذي أعاد تشريح الأزمة السودانية ووضع الأصبع مباشرة على الجرح المفتوح.

في تلك القاعة التي اكتظت بطيف واسع من قيادات القوى السياسية والنقابية والمهنية، اجتمع المختلفون — أيديولوجيًا وتنظيميًا — على هدف واحد: كيف يمكن لهذا البلد المنهك بالحرب والانقسام أن يستعيد بوصلته، وأن يكتب لنفسه بداية جديدة تتجاوز كل إخفاقات الماضي؟

كانت الورشة الثانية ضمن برنامج تكريم المهندس المستشار عوض الكريم محمد أحمد أكثر من مجرد فعالية احتفائية. لقد تحولت، بفضل طبيعة اللحظة وتعقيد المشهد الوطني، إلى مساحة تفكير جماعي نادرة؛ مساحة تخلّت فيها القوى عن لغة المنابر العالية، واقتربت من حقيقة السؤال الذي ظلّ يؤرق السودانيين: لماذا فشلنا، رغم ثلاث ثورات عظمى، في بناء دولة تحفظ كرامة مواطنيها؟

لم يكن ممكنًا أن يمرّ تكريم رجل مثل عوض الكريم مرورًا عابرًا؛ فهو أحد أبرز أعمدة العمل الهندسي والنقابي، ورمزٌ لطينة نادرة من المهنيين الذين جمعوا بين الصرامة المهنية والرؤية الوطنية. وعبر سنوات طويلة، ظلّ الرجل يمارس دوره النقابي بصمت وفعالية، ويخوض معارك عديدة من أجل استقلالية المؤسسات المهنية وحماية المهنة من التسييس والهيمنة.

لهذا، بدت فعاليات تكريمه وكأنها تستدعي — من تلقاء نفسها — نقاشًا أوسع: نقاشًا عن الدولة، عن النقابات، عن القوى السياسية، وعن مستقبل وطن يقف اليوم على حافة الانهيار. لقد حملت الورشة روح هذا الرجل، واستعادت من سيرته ما جعلها منصة لطرح الأسئلة الكبرى: كيف نوقف الحرب؟ وكيف نبني دولة عادلة؟ وكيف نتجاوز القطيعة التي مزّقت الصف المدني وأفقدت البلاد فرصتها الرابعة للانتقال الديمقراطي؟

ومع بداية المداولات، بدا واضحًا أن ما يُبحث هنا ليس شؤون نقابية ولا رؤى تقنية، بل مستقبل بلد كامل يبحث عن نقطة شروع جديدة. كل مداخلة جاءت مشحونة بقلق اللحظة، وكل رأي كان يحمل بين كلماته وزن مسؤولية تاريخية: سؤال البقاء كدولة، وكشعب، وكفكرة.

وجاءت الورشة الثانية من برنامج التكريم تحت عنوان لافت: “نجاح الثورات وإخفاق التحول الديمقراطي”، وهو عنوان بدا كأنه يختصر تاريخ السودان السياسي في جملة واحدة. وقد حرص على حضورها عدد كبير من قيادات الأحزاب السياسية والقيادات النقابية، إلى جانب المحتفى به المهندس عوض الكريم محمد أحمد، الذي منح وجوده المناسبة بعدًا رمزيًا إضافيًا يعيد التذكير بالدور المهني الوطني الذي طالما لعبه.

هذه الورشة لم تكن مجرد جلسة نقاش تقليدية؛ لقد تحولت منذ لحظتها الأولى إلى منصة تفكير جاد في سؤال ظلّ يطارد الوجدان السوداني لعقود: كيف نجحنا ثلاث مرات في إسقاط أنظمة الحكم، وفشلنا ثلاث مرات في بناء ديمقراطية مستقرة؟

كان الحضور يدرك أن هذا السؤال أكبر من اللحظة، وأن الإجابات عليه لا يمكن أن تكون مقطوعة عن جذور الأزمة التاريخية التي صنعت هشاشة الدولة السودانية منذ الاستقلال.

وعلى الرغم من اختلاف الخلفيات الفكرية والسياسية التي جاءت منها أوراق الورشة — ورقة حزب الأمة القومي، ورقة الحزب الشيوعي السوداني، وورقة العمل الوطني للدكتور مصطفى عوض الكريم — إلا أن خيطًا دقيقًا وواضحًا ربط بينها جميعًا: ضرورة تفكيك بنية الأزمة السودانية وليس فقط أعراضها.

لقد اتفقت هذه المدارس المتباينة على أن فشل التحول الديمقراطي لم يكن نتيجة أخطاء تقنية أو صراع سياسي عابر، بل نتاج تراكم طويل لفشل النخب المدنية والعسكرية، وتآكل مؤسسات الدولة، وإقصاء المجتمع المدني، وإضعاف النقابات التي كانت في لحظة ما عمودًا فقريًا للحياة العامة.

 

وما ميّز نقاش هذه الورشة أن الأوراق — على اختلاف مدارسها — لم تكتف بتقديم نقد الماضي، بل دفعت باتجاه مراجعة شجاعة لإعادة الاعتبار للقوى الاجتماعية الحية: النقابات، منظمات المجتمع المدني، لجان المقاومة، والقطاعات المهنية، بوصفها الضامن الحقيقي لأي تحول ديمقراطي لا يُختطف ولا ينكسر عند أول منعطف سياسي أو عسكري.

كانت الورشة، بكل ما حملته من اختلاف وتنوع، محاولة جادة لفتح نقاش سوداني صادق حول سؤال مصيري:

هل يمكن للسودان أن يصيغ مستقبله بعيدًا عن تكرار ذات الدائرة الجهنمية — ثورة، أمل، صراع، فشل؟

جوهر السؤال

في ورقته المعنونة بـ«العمل الوطني»، ينطلق الدكتور مصطفى عوض الكريم من فعل التكريم ذاته—تكريم المهندس المستشار عوض الكريم محمد أحمد—كمفتاحٍ لقراءة أوسع في علاقة المهنة بالوطن، ودور النقابات في تشكيل الوعي العام، وإعادة تعريف المسؤولية الجماعية في زمنٍ تتسارع فيه الانهيارات. يرى صاحب الورقة أن ما يُحتفى به اليوم ليس سيرة فرد استثنائي فحسب، بل تقليدٌ مهنيٌّ أصيل جسدته أجيال من المهندسين الذين جعلوا من دار المهندس قديمًا وحديثًا قلعة للعمل الوطني. ومن هذا المدخل الوجداني–المعرفي ينتقل الكاتب إلى تشريح إخفاقات التجربة الديمقراطية السودانية، وأدوار النقابات والأحزاب، وأسئلة المستقبل، محاولًا تحرير المفاهيم من أسر اليقينيات الرائجة، والدعوة إلى «عصف ذهني» لا ينتهي إلا بتأسيس وعي جديد بمتطلبات الدولة الحديثة.

 

دار المهندس والذاكرة الوطنية

تبدأ الورقة بتأكيد أن تخصيص ورشة «العمل الوطني» في سياق الاحتفاء بالمهندس عوض الكريم ليس إجراءً بروتوكوليًا، بل استعادةٌ لمعنى مكثف غاب طويلًا عن النقاش العام: أن المهندسين السودانيين كانوا عبر التاريخ ركيزة أساسية في العمل القومي—سياسيًا وفكريًا وثقافيًا.

دار المهندس، كما يصفها الكاتب، لم تكن مجرد مبنى للنشاط المهني، بل فضاءً مفتوحًا لكل ألوان الطيف السياسي، وملجأً للباحثين عن حرية العمل النقابي في وجه القمع، ومنصة لبلورة الوعي الوطني منذ ما قبل الاستقلال إلى اليوم.

 

سيرة مُحتفى به تُضيء الطريق

 

تتوقف الورقة مطولًا عند سيرة المحتفى به، الباشمهندس عوض الكريم محمد أحمد، الذي لم يكتفِ بإنجازات مهنية عالية في الهندسة المعمارية والتخطيط، بل قاد التجمع النقابي سكرتيرًا عامًا في مرحلة مفصلية، وواجه السجون والملاحقات بثبات، ليغدو نموذجًا للقائد الذي يرى في العمل الوطني جزءًا لا يتجزأ من مسؤوليته المهنية.

هذه السيرة، كما يوضح الكاتب، ليست استثناءً، بل امتدادٌ لتقليد نقابي راسخ ظل يربط بين الدفاع عن الحقوق المهنية والالتزام العام تجاه الوطن.

 

سؤال الديمقراطية في عالم مضطرب

 

من هذا المدخل ينتقل الكاتب إلى واحدة من أعمق قضايا الورقة: هل تحتاج الديمقراطية إلى إعادة تعريف؟

يرى د. مصطفى أن التجربة الغربية نفسها لم تعد تقدم نموذجًا مُرضيًا، بعدما هيمنت قوى المال والإعلام واللوبيات على القرار العام، وأصبح المواطن العادي في قلب تلك الديمقراطيات أقرب إلى الضحية منه إلى الشريك في الحكم.

ومن هنا يتساءل: إذا كان النموذج الغربي نفسه يتعرض للاهتزاز، فكيف يمكن لدولٍ مثل السودان، المنهكة بالحروب والانقسامات، أن تستنسخه دون مراجعة أو تكييف؟

 

الفشل الجماعي… كمنطلق للإصلاح

 

تطرح الورقة بوضوح غير معتاد ضرورة الاعتراف الجمعي بالفشل: فشل الأحزاب، والنقابات، والجيش، ومنظمات المجتمع المدني، وجيلٍ كاملٍ عجز عن حماية الوطن من الانزلاق إلى الحرب والانهيار.

هذا الاعتراف، كما يقول الكاتب، ليس جلدًا للذات، بل خطوة أولى للتصحيح، لأن لا شيء أقسى من الحرب، ولا جرح أعمق من تدمير المدن وتشريد الناس وإراقة الدماء على امتداد البلاد.

 

مأزق الأحزاب وتشظي البدائل

 

تعيد الورقة طرح سؤال بنية الأحزاب السودانية: هل يمكن للديمقراطية أن تتجذر في مجتمع ما تزال ولاءاته التاريخية قائمة على الطائفية؟ وهل استطاعت الأحزاب العقائدية، حين خرجت على القبضة الطائفية، أن تقدّم بديلاً فعليًا؟

يشير الكاتب إلى مفارقة عجيبة: السودان مسجلٌ فيه رسميًا أكثر من ٤٢ حزبًا، وما يقارب ٣٠ آخر قيد التسجيل، أي أكثر من سبعين كيانًا سياسيًا، فكيف يمكن لبلد بهذا التشظي أن يصوغ تمثيلًا ديمقراطيًا مستقرًا؟

إن معظم الأحزاب، كما يرى، إما هرِمة فقدت القدرة على التجدد، أو حديثة لم تكتسب بعد حكمة التجربة، بينما يظل القاسم المشترك بينها جميعًا سرعة الانقسام وبطء التطوير.

 

العمل النقابي بين المجد القديم والواقع المعقّد

 

تستعيد الورقة التاريخ العريق للعمل النقابي، منذ هيئة شؤون العمال في 1946 وحتى تأسيس اتحاد نقابات العمال 1952، مؤكدة أن النقابات لعبت أدوارًا جوهرية في لحظات التغيير الكبرى، لكنها في مراحل الحكم الديمقراطي اللاحقة كثيرًا ما ساهمت—أحيانًا تحت ضغط سياسي وأحيانًا بسبب الانقسامات—في إرباك المشهد المدني وتسريع سقوط الحكومات.

ويشير الكاتب إلى أن العبث القانوني للنظم المتعاقبة، والانقلابات النقابية، وتغوّل الانتماءات الحزبية على القرار النقابي، كل ذلك جعل النقابات عاجزة عن لعب دورها التاريخي في حماية المسار الديمقراطي.

 

نحو وعي جديد بعد الحرب

 

تُختتم الورقة بسؤال محوري: هل ولّدت الحرب وعيًا جمعيًا جديدًا يدفع السودانيين نحو اصطفاف وطني يتجاوز إرث الانقسامات ويعيد بناء الدولة على أسس عقلانية وحديثة؟

وما الذي يجب فعله تجاه القوى التي وقفت صراحة ضد ثورة ديسمبر وانحازت للثورات المضادة؟

هذه الأسئلة، وفق الكاتب، لا تزال بلا إجابات نهائية، لكنها تمثل الأساس لأي مشروع وطني مقبل، لأن المستقبل لن يُبنى إلا بإعادة تعريف المسؤولية، وتجديد بنية العمل النقابي والحزبي، وصياغة علاقة جديدة بين المجتمع والدولة.

أزمة الدولة

وقدم أمين السياسات بحزب الامة القومي إمام الحلو ورقة سياسية جريئة بعنوان “نجاح الثورات وإخفاق التحول الديمقراطي”.

الورقة جاءت في لحظة سياسية تتقاطع فيها ذكريات الثورات الكبرى مع جراح الواقع، وسعت إلى مساءلة سؤال ظل معلقًا في فضاء السياسة السودانية: لماذا تنجح القوى المهنية والنقابية في قيادة لحظة الثورة، بينما تفشل القوى السياسية في إدارة الدولة ديمقراطيًا بعد سقوط الأنظمة؟

 

جذور الأزمة الوطنية

 

تذهب الورقة إلى أن انتقال الحكم من الاستعمار إلى الوطني لم يصحبه بناء مؤسسي ناضج، كما لم تتراجع الولاءات الأولية بالقدر الذي يسمح بقيام ولاء وطني جامع. مؤسسات الدولة ورثت عطبها من الإدارة الإمبريالية، بينما تمددت الطائفية والقبلية على حساب الهوية الوطنية الجامعة، ما جعل تجربة الحكم الوطني تنطلق منذ 1956 من أرضية هشة.

 

معنى المرحلة الانتقالية

 

ترى الورقة أن الانتقال هو “جسْر بين ضفتي الاستبداد والديمقراطية”، وهو جسر يحتاج إلى ضوابط واضحة:

العمل الجبهوي المشترك، نبذ الإقصاء، الاتفاق على شكل الدولة، التمسك بالسلمية، وتجنب الارتهان للخارج.

غياب هذه الضوابط نزع عن الفترات الانتقالية القدرة على الوصول إلى الديمقراطية المستدامة.

 

تحديات فترة حمدوك

 

أشارت الورقة إلى أن الحكومة الانتقالية الأخيرة واجهت أربع جبهات مفتوحة:

السلام، الاقتصاد، معاش الناس، وهشاشة الشراكة بين المكونين العسكري والمدني. ضعف الكفاءة التنظيمية والقيادية لقوى الحرية والتغيير، إلى جانب تعقيدات الإقليم، انتهى بانقلاب 25 أكتوبر 2021 وانهيار الفترة الانتقالية الرابعة.

 

صراع النفوذ داخل الانتقالات

 

ترى الورقة أن المراحل الانتقالية السودانية كلها شهدت صراعًا محتدمًا بين القوى المستوردة يسارًا ويمينًا وبين قوى الوسط الوطني. القوى المتطرفة سعت لمد الفترة الانتقالية للتحكم في السلطة عبر النقابات ومنظمات المجتمع المدني، بينما أرادت قوى الوسط انتخابات مبكرة اعتمادًا على ثقلها الشعبي. وفي النتيجة، خرجت كل الفترات الانتقالية الأربع فاشلة في بناء الدولة الوطنية التي حلم بها السودانيون.

 

تشخيص العيوب البنيوية

 

حددت الورقة ستة عيوب ضربت التجربة الديمقراطية:

ضعف الأحزاب الوطنية، اختراق النقابات، المظالم الجهوية وأثر الحروب، استغلال المؤسسة العسكرية سياسيًا، الفوضى الإعلامية، ثم التدخلات الإقليمية والدولية.

هذه العيوب – بحسب الورقة – استغلها الطامحون لإسقاط الديمقراطيات الوليدة، ومن دون معالجتها سيظل السودان يدور في الحلقة المفرغة نفسها.

 

خريطة للهندسة السياسية

 

طرحت الورقة برنامجًا لإعادة بناء الحياة السياسية:

أحزاب مفتوحة العضوية وبرامجية، نقابات مستقلة، نظام سياسي يقوم على الحكم الراشد، اتفاق سلام يعالج جذور المظالم، نموذج اقتصادي تنموي يعزز العدالة، إعلام مهني حر لا يخضع للتمويل الأجنبي، قوات مسلحة منضبطة محصنة من الاختراق، وسياسة خارجية متوازنة تحمي المصالح الوطنية.

 

حرب أبريل وتغيير معادلة الدولة

 

ترى الورقة أن حرب أبريل 2023 أعادت تشكيل الوعي والبنية الوطنية بصورة جذرية. الحرب حطمت مؤسسات الدولة، وعمّقت الانتماءات الأولية، وانتشر خطاب الكراهية، وانفرط عقد الاندماج الوطني. التعليم والصحة والطاقة انهارت، والاقتصاد توقف عن الدوران، ما جعل العودة إلى السودان القديم أمرًا مستبعدًا، بل غير مرغوب فيه لدى كثيرين.

 

إن رغبة السودانيين اليوم لم تعد مجرد إسقاط نظام، بل بناء دولة جديدة تتجاوز عيوب الماضي. الرسالة الجوهرية لورقة حزب الأمة القومي، كما قدمها الأستاذ إمام الحلو، هي أن السودان بحاجة إلى هندسة سياسية واجتماعية جديدة، وإلى شجاعة الاعتراف بأن الثورات وحدها لا تكفي إذا ظلت النخب تعيد الأخطاء نفسها.

 

فشل النخب

 

في ورقة الحزب الشيوعي، التي قدمها بشري عبد الكريم جباره جاء التشخيص أكثر حدّة، إذ اعتبرت أنّ النخب السودانية—مدنية كانت أم عسكرية—لم تستوعب متطلبات بناء دولة حديثة. ركّزت الورقة على مسؤولية الأحزاب عن إعادة إنتاج الطائفية، وعلى الدور السلبي للبرجوازية التجارية وارتباطها بتوازنات ما قبل الدولة.

وتقدّم الورقة قراءة نقدية جريئة لجذور الإخفاق المتكرر للثورات السودانية منذ أكتوبر 1964 وحتى ديسمبر 2018، وتطرح تفسيرًا عميقًا للدور الذي لعبته الدولة القديمة والقوى السياسية والتسويات الهشة في تحويل انتصارات الجماهير إلى هزائم سياسية. وتؤكد الورقة أن أزمة السودان لا تكمن في إسقاط الأنظمة، بل في غياب “حراسة الثورة” وانسحاب الجماهير بعد لحظة الانتصار. كما تدعو الورقة إلى بناء جبهة جماهيرية واسعة تُخضع القوى السياسية لرقابة الشارع، وإلى عقد مؤتمر دستوري شامل يحسم القضايا الكبرى، وترفض أي تسويات مع من ارتكب الجرائم. وتخلص الورقة إلى أن الديمقراطية المستدامة والتنمية المتوازنة ومحاسبة المجرمين هي الأساس الوحيد لبناء دولة المواطنة، وأن الحرب الحالية جاءت كخيار أخير لإبعاد الجماهير عن السلطة وإجهاض الثورة نهائيًا.

الخروج من المأزق

 

منذ الجملة الأولى، تقول الورقة إن الخروج من المأزق الراهن لن يتحقق إلا عبر مراجعة نقدية طويلة ومفتوحة، تشترك فيها القوى السياسية والمدنية وجماهير الشعب. وتشدد على أن ما يواجه السودان اليوم من مخاطر وجودية يستدعي نقاشًا صبورًا لا تختزله ورشة واحدة، بل سلسلة ممتدة من الحوارات التي تعيد تقييم التجربة الثورية ومساراتها.

 

لماذا تسقط الأنظمة وتفشل الثورات؟

 

تشخّص ورقة الحزب الشيوعي جذور الإخفاق المتكرر بوضوح لافت. إذ ترى أن الجماهير السودانية أثبتت قدرتها على إسقاط الدكتاتوريات عبر أدواتها المجربة ـ التظاهر، الإضرابات، العصيان المدني، والإضراب السياسي العام ـ لكنّ لحظة الانتصار الأولى ليست سوى الخطوة الأولى في مسار طويل كان يفترض أن يحرسه الشارع.

 

وتضيف الورقة أن الإشكال يبدأ لحظة انسحاب الجماهير، فسرعان ما تعيد القوى المتربصة بالثورة تنظيم صفوفها، وتستعيد الدولة القديمة مفاصلها تدريجيًا، إلى أن تستعيد السلطة بالكامل وتجهض المشروع الثوري. وتُحمّل الورقة القوى السياسية التي قادت الحراك مسؤولية عدم العودة إلى الجماهير بعد إسقاط النظام، وانشغالها بالتسويات والسعي إلى نصيب أكبر من “كيكة السلطة”.

 

أكتوبر وأبريل… مختبر الفشل المتكرر

 

وتشير الورقة إلى أن تجربة أكتوبر 1964 كانت المثال الأوضح على قدرة القوى التقليدية على اقتناص السلطة. فبعد أن قادت جبهة الهيئات الثورة، جاءت جبهة الأحزاب الوطنية، بسياساتها ومصالحها وتحالفاتها، لتجهض المشروع الثوري، وتستبدل الدكتاتورية العسكرية بأخرى مدنية، وتقصي الجماهير بطرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان ورفض حكم المحكمة الدستورية.

 

وتقول الورقة إن السيناريو نفسه تكرر في أبريل 1985، حين هيمن المجلس العسكري على التحول السياسي، وفُصِّل قانون انتخابي يضمن بقاء القوى التقليدية في السلطة ويقطع الطريق أمام قوى الحركة الجماهيرية. فكانت العودة السريعة للإسلاميين وحلفاء نظام مايو مقدمة للانقلاب اللاحق عليهم في يونيو 1989.

 

ديسمبر… أوسع الثورات وأكثرها انكسارًا

 

وتشخّص الورقة وضع ثورة ديسمبر باعتبارها ثورة مختلفة من حيث حجم المشاركة واتساع رقعة الحراك، لكنها انتهت إلى المصير ذاته. ففي حين خرجت جماهير المدن والريف والقرى في وحدة نادرة تجسدت في اعتصام القيادة العامة، لم تستفد القوى الثورية من درس أكتوبر وأبريل في ضرورة الاستمرار في مراقبة تنفيذ شعارات الثورة.

 

وترى الورقة أن سوء فهم شعار “تسقط بس” كان أحد أبرز عناصر الأزمة، إذ استُخدم وكأنه دعوة لإسقاط الحكومة فقط، بينما كان المقصود إسقاط منظومة الحكم بكل مكوّناتها العسكرية والمدنية. لكن القوى التي قادت الحراك اتجهت إلى التسوية، ولم تلجأ للجماهير، ورضيت بمحاصصات سياسية أنهكت حكومة حمدوك واستنزفت المشروع الثوري.

 

وتقول الورقة إن الدولة العميقة ـ بجهازها العسكري والشرطي والقضائي والمدني ـ وقفت بصلابة ضد التغيير، بينما اختارت القوى المدنية الطريق الأسهل: تسويات جزئية لا تُسقط المنظومة ولا تهزمها، بل تعطيها فرصة لإعادة التموضع.

 

وتضيف الورقة أن الشارع، حين صدمته تلك التسويات، خرج بشعار “تسقط تاني… تسقط ثالث”، في إشارة إلى أن السلطة الجديدة أعادت إنتاج النظام القديم بوجه آخر. ومع استمرار مقاومة الجماهير، اتجهت المنظومة الحاكمة إلى الخيار الأخير لإجهاض الثورة: الانقلاب العسكري، ثم الحرب الشاملة.

 

الثورة والدولة… من يحكم السودان؟

 

وفي القسم الفكري من الورقة، يقدم الحزب الشيوعي رؤيته لمرحلة “الثورة الوطنية الديمقراطية”. وتقول الورقة إن حل مشكلات السودان لن يكون إلا في ظل نظام ديمقراطي حقيقي، وإن حكم الحزب الواحد ـ أيًّا كان ـ غير ممكن في السودان، وإن التنمية المرتبطة بإملاءات صندوق النقد والبنك الدولي فشلت في خلق توازن اجتماعي أو عدالة اقتصادية.

 

وتشدد الورقة على ضرورة بناء برنامج وطني للتنمية المتوازنة يعالج التعليم والصحة والتصنيع الزراعي وقضايا الرحّل والهوية وشكل الدولة، والذهاب إلى مؤتمر دستوري شامل يحسم الأسئلة الكبرى: كيف يُحكم السودان، وليس من يحكمه.

 

لا تسوية مع من أجرم

 

وتقول الورقة إن الحزب يرفض الجلوس أو التسوية مع من ارتكب الجرائم، باعتبار أن المحاكم وحدها الجهة المخولة بتحديد البراءة أو الإدانة. وتضيف أن أي تجاوز للجرائم والانتهاكات سيقود إلى إعادة إنتاج الأزمة. وتشدد على أن السيادة الوطنية ووحدة البلاد خطوط حمراء غير قابلة للمساومة.

 

الجبهة الجماهيرية… الطريق الوحيد

 

وتختم الورقة بدعوة إلى بناء “جبهة جماهيرية واسعة” تشترك فيها القوى المدنية والسياسية والنقابية تحت رقابة مباشرة من الجماهير، على برنامج واضح يمنع تكرار ما حدث في أكتوبر وأبريل وديسمبر. وتؤكد أن القادم يمكن أن يكون أفضل إذا وُضعت الثقة في الجماهير وقدرتها على هزيمة كل أشكال السلطة المستبدة، مدنية كانت أم عسكرية.

 

المناقشات

 

في قراءة تحليلية تستند إلى تاريخ السودان السياسي وتقارن بين تجاربه المتعاقبة، يناقش يس حسن بشير في ورقته طبيعة الانتقال الديمقراطي في السودان، وموقعه بين النجاح والإخفاق، وسؤال: لماذا لم ينجح هذا البلد في تثبيت قواعد الحكم المدني رغم أربع محاولات مكتملة الأركان؟

 

جذور الحلم الديمقراطي

 

ينطلق يس من خلفية تاريخية واسعة، يذكّر فيها بأن الديمقراطية لم تكن يومًا منحة سهلة، بل ثمرة صراع طويل ضد أنظمة الحكم المطلق. ويؤكد أن إسقاط الأنظمة القهرية ليس سوى الخطوة الأولى في مسار متعدد المراحل، تبدأ بالانتقال الديمقراطي، ثم التحول المؤسسي عبر الانتخابات، قبل الوصول إلى الاستقرار الديمقراطي الذي تقوم عليه الدول الراسخة.

 

مفترق المراحل

 

وفق التحليل، الذي قدمه الأستاذ يس تمثل مرحلة الانتقال عقدة المسار الديمقراطي في معظم تجارب العالم النامي، ومنها السودان؛ فهي المرحلة التي يُعاد فيها تعريف السلطة، وتُصاغ هياكل الدولة، ويُرسم مستقبل العلاقة بين المدنيين والعسكريين. نجاح هذه النقطة من المسار يفتح الطريق أمام التحول الانتخابي، بينما يؤدي تعثرها إلى انتكاس أو انقلاب.

 

تجارب الماضي

 

على امتداد سبعة عقود، خاض السودان أربع تجارب انتقال:

1953–1956، 1964–1965، 1985–1986، وأخيرًا 2019–2021.

نجحت التجارب الثلاث الأولى في الوصول إلى انتخابات وبرلمان، لكنها فشلت في تثبيت قواعد الحكم المدني؛ إذ أطاح انقلاب عسكري بكل تجربة بعد دورة انتخابية واحدة، ما كشف هشاشة الترتيبات الانتقالية وعدم قدرة النخب على تحصين الديمقراطية.

 

انتكاسة 2019

 

أما التجربة الأخيرة، فقد تعثرت عند خط البداية. لم يصل السودان في الفترة بين 2019 و2021 إلى مرحلة التحول الديمقراطي، بعدما فشل الانتقال نفسه نتيجة خلل في التأسيس السياسي، ثم جاء انقلاب 25 أكتوبر 2021 ليجهز على ما تبقى، قبل أن تندلع الحرب في أبريل 2023 بين مكونات النظام القديم التي عادت إلى الواجهة بصراعات أكثر عصفًا.

 

ميدان القيادة .. خطة خادعة

 

يذهب معد الورقة إلى أن أول الأخطاء الجوهرية بدأت منذ اعتصام القيادة العامة. فالسماح للجماهير بالدخول إلى محيط الجيش لم يكن تعبيرًا كاملًا عن انتصار الثورة، بل جزءًا من خطة اللجنة الأمنية للنظام لإدارة المشهد والتمهيد لانتقال محسوب يضمن بقاء بنية النظام داخل معادلة الحكم الجديدة. ويعتقد أن بعض مكونات قوى الحرية والتغيير ساهمت – بقصد أو بدونه – في تحويل الثورة إلى مسار تفاوضي خاضع لشروط المكوّن العسكري.

 

شبكة النظام القديم .. اصطفافات

 

مع تطور الأحداث، تداخلت مصالح بعض القوى المدنية مع مراكز النفوذ داخل النظام السابق، بما في ذلك المجموعة الأمنية المقربة من الدعم السريع. وبدلًا من أن يتجه المسار نحو تفكيك منظومة الإنقاذ، وجد السودان نفسه أمام اصطفافات جديدة أعادت إنتاج التوازنات ذاتها، وأفقدت الانتقال روحه ووضوحه.

 

أزمة الوثيقة .. مثلث برمودا

 

في قلب الأزمة برزت الوثيقة الدستورية التي وُقّعت في أغسطس 2019. ورغم أنها مثلت لحظة توافق واسعة في ظاهرها، إلا أنها – بحسب التحليل – احتوت على اختلالات جوهرية، أبرزها منح الدعم السريع شرعية سياسية وعسكرية مكّنته من التحول إلى قوة موازية داخل الدولة، وهو ما خلق دولة بثلاث رؤوس: مجلس سيادي منقسم، وجيش تقليدي، وقوة صاعدة تتجاوز حدود التفويض.

 

خلاصة الطريق .. فشل إدارة الانتقال

 

يخلص الأستاذ يس في ورقته إلى أن السودان لم يفشل في الديمقراطية كفكرة، بل في إدارة الانتقال ذاته. فغياب الرؤية الموحدة، وتداخل المصالح مع مؤسسات النظام القديم، وإعادة إنتاج مراكز القوة الأمنية، كلها عوامل عطلت المسار وأدت إلى الانتكاسات المتتالية.

 

ويرى أن أي انتقال جديد لن ينجح ما لم يبدأ بإصلاح جذري في بنية الدولة، وفصل واضح بين الأجهزة النظامية والسلطة السياسية، وإرادة حقيقية لتفكيك إرث الأنظمة القهرية بدل التحالف معها أو التعايش معها ضمن ترتيبات انتقالية هشة.

عمل جماعي … يتجاوز الخلافات

 

اتفق المناقشون في الورشة على أن الخروج من الأزمة الوطنية الراهنة لن يتحقق إلا عبر عمل جماعي تتجاوز فيه القوى السياسية والمجتمعية خلافاتها، وتتوافق على حدٍّ أدنى جامع يؤسس لعمل جبهوي قادر على إحداث التغيير. وقد لخّص الأمين السياسي لحزب البعث العربي الاشتراكي، الأستاذ كمال بولاد، جوهر هذا الحد الأدنى في نقاط واضحة: وقف الحرب، الانتقال المدني الديمقراطي، الوحدة الوطنية، وقطع الطريق أمام عودة النظام البائد. وأكد بولاد أن تكريم المهندس عوض الكريم اتخذ طابعًا مختلفًا هذه المرة، إذ استطاع أن يجمع أطيافًا سياسية متعددة الاتجاهات، الأمر الذي يمنحه قيمة تتجاوز الاحتفاء إلى كونه بداية لعمل وطني حقيقي يمكن أن يشكل نقطة تحول.

 

وفي الاتجاه ذاته، ذهب د. صلاح عوض في تعقيبه على ورقة العمل الوطني، واصفًا إياها بأنها جهد فكري صادق يطرح أسئلة جوهرية ويضع إصبع الكاتب على الجرح في توقيت بالغ الحساسية، حيث يعيش السودان لحظة انهيار شامل للدولة، مما يجعل التفكير في دور القوى الاجتماعية في إعادة البناء ضرورة ملحّة لا ترفًا فكريًا.

غير أن د. صلاح قدّم ثلاث ملاحظات محورية على الورقة:

أولها أن الورقة ركزت على فشل الأحزاب والنقابات وغياب القيادة، لكنها لم تفكك البنية التاريخية للدولة السودانية — بنية كرّست هيمنة المركز، والاقتصاد الريعي، وعسكرة السياسة، وتسييس الموارد، وهيمنة العقلية “العروبية الإسلامية”. ويرى أن فهم فشل الديمقراطية متعذّر دون فهم هذه البنية العميقة.

 

أما الملاحظة الثانية فتتعلق بفرضية أن النقابات هي المحرك الأساسي للتغيير والمؤهلة لقيادة المستقبل، وهي فرضية يعتبرها د. صلاح قوية أخلاقيًا وتاريخيًا، لكنها تحتاج إلى تبرير عملي. وطرح أسئلته الثلاثة التي تسائل هذا الافتراض:

هل تمتلك النقابات اليوم قاعدة اجتماعية؟

هل تمتلك مؤسسات تنظيم؟

هل تستطيع أن تدير دولة؟

مضيفًا أن الخبرة التاريخية تشير إلى أن النقابات تفجّر الثورات لكنها لا تدير الحكومات.

 

وفي ملاحظته الثالثة، أشار إلى أن الورقة جاءت مشحونة بأخلاق عالية ولغة وطنية نبيلة، غير أن المرحلة الراهنة تتطلب تحليل مصالح القوى وتوازنات السلطة والاقتصاد السياسي للحرب، إلى جانب حركة المجتمع والدولة، موضحًا أن الفضيلة وحدها لا توقف حربًا ولا تبني دولة، وأن الواقع يحتاج إلى عقل سياسي قادر على استيعاب كل هذه العناصر والتعامل معها.

وفي ختام مداخلته، اقترح ثلاثة توجهات استراتيجية لمستقبل العمل النقابي:

– الانتقال من ثقافة الاحتجاج إلى ثقافة البناء، فالنقابات قوية في التعبئة والإضراب والتمرد، لكنها ضعيفة في التخطيط والإدارة وبناء التحالفات، وهو ما يتطلب تحولًا في العقلية النقابية.

– توسيع الدور من نقابي إلى مجتمعي، لأن السودان اليوم يحتاج إلى حركة مدنية واسعة تربط النقابات بمنظمات المجتمع المدني والشباب والنساء وقوى الهامش، وإلا ستظل النقابات نخبوية وضعيفة.

– ربط المشروع النقابي بمهمة إعادة البناء الوطني، متسائلًا عن قدرة القوى النقابية على التحول من معارضة للسلطة إلى شريك في إعادة الدولة.

 

وفي مداخلة أخرى، ذهب المهندس محمد فائق إلى نقد التركيبة السياسية للدولة ونشأة القوى السياسية التي تشكّلت كتحالف بين القوى الحديثة والقوى التقليدية من الإدارة الأهلية والطوائف الدينية. أما الأستاذة المحامية سامية الهاشمي فرأت أن تكريم المهندس عوض الكريم كشف أن القوى السياسية يمكن أن تلتقي حول برنامج موحد لوقف الحرب، غير أنها وجهت انتقادات حادة لغياب التمثيل الحقيقي للنساء في مواقع القرار، إضافة إلى ضعف مشاركة الشباب.

 

ودعا رئيس التحالف السوداني اللواء كمال إسماعيل القوى السياسية إلى إعادة النظر في موقفها من القوات المسلحة، مؤكدًا أن الأوضاع الحالية أظهرت أن المؤسسة العسكرية، رغم حاجتها الواضحة إلى إصلاح جذري، ليست مسؤولة وحدها عن فشل التجارب الديمقراطية، فمسؤولية الانقلابات مشتركة بين السياسيين والعسكريين. وذكّر بدور “تضامن” — وهو تجمع يضم معاشيي الجيش والشرطة والأمن — في جمع القوى السياسية وتوحيد كلمتها وعلاء صوتها.

 

ومن جانبه، نبّه رئيس اللجنة التسييرية لنقابة المحامين علي قيلوب إلى ضرورة تلافي الأخطاء التي صاحبت فترات الحكم الديمقراطي، مشددًا على أن نجاح الثورات لا يكتمل بإسقاط النظام فحسب، وإنما يحتاج إلى عمل جاد لحماية الثورة وصون مكتسباتها.

 

أما المهندس فيصل بشير فسلّط الضوء على أن برنامج تكريم الباشمهندس عوض الكريم محمد أحمد وورشة العمل الوطني مرّا بعدة تعديلات في العنوان، من “نجاح الثورات وفشل الانتقال” إلى “نجاح الثورات وفشل العمل الديمقراطي”، وصولًا إلى “نجاح الثورات وفشل التحول الديمقراطي”، وهو العنوان الذي يميل إليه فيصل باعتباره الأكثر تحديدًا وشمولًا.

وانطلق فيصل في مداخلته إلى تناول مفهوم الديمقراطية، قائلًا إن الديمقراطية الليبرالية، منذ أثينا وروما، وهي حكم الشعب لنفسه عبر التمثيل النيابي أو التفويض، تعد أفضل ما توصلت إليه البشرية، ولكن الصيغة الأنسب لكل مجتمع يجب أن تتكيف مع تطوره الاقتصادي والاجتماعي والمعرفي. ولذلك ليس مطلوبًا نسخ التجربة الغربية “copy-paste”، بل تعديلها وتطويرها، واستشهد بتجارب السودان عبر دوائر الخريجين والقوى الحديثة.

وأشار إلى أن الديمقراطية كانت أحد أهداف الثورات الثلاث: أكتوبر 1964، أبريل 1985، وديسمبر 2018، وهي ثورات جماهيرية بامتياز قادتها النقابات وشاركت فيها القوى السياسية، عبر الإضراب السياسي العام والمظاهرات الواسعة في المدن والأرياف.

 

وانتقل فيصل إلى تحليل أسباب فشل الانتقال الديمقراطي، مستعرضًا دوره المتكرر عبر العقود، حيث يكون الإجهاض دائمًا من القوى المعادية للديمقراطية، ممثلة في اليمين المتطرف (الإسلام السياسي) وقيادة الجيش. فبعد أكتوبر أُسقطت حكومة سر الختم الخليفة الأولى بعد ستة أشهر بدور من الأحزاب التقليدية، ثم جاء حل الحزب الشيوعي عام 1965 بطرد نوابه من البرلمان في حادثة معهد المعلمين العالي بقيادة سعاد الفاتح وجبهة الميثاق الإسلامي. وبعد انتفاضة أبريل 1985 أعاقت الجبهة الإسلامية الفترة الانتقالية ودَفعت المجلس العسكري لتمرير قانون انتخابي معيب. ثم عاد الإسلام السياسي بعد ثورة ديسمبر 2018 لتخريب الانتقال وصولًا إلى انقلاب أكتوبر 2021 وإشعال الحرب الحالية.

واعتبر فيصل أن العدو الرئيسي للانتقال الديمقراطي هو الإسلام السياسي وقيادات الجيش.

 

وختم مداخلته بالدعوة إلى جبهة مدنية ديمقراطية واسعة تضم القوى السياسية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني والطرق الصوفية والزعامات الأهلية والشخصيات الوطنية، تتوافق على برنامج حد أدنى لفرض وقف الحرب وتوصيل المساعدات وحماية المدنيين ومعاقبة مرتكبي الجرائم، والدخول في عملية سياسية تنقذ البلاد وتستعد لإعادة الإعمار بعد توقف الحرب.

وأشار إلى أن الدعوة لإسقاط الحكومة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر كانت شعار الإسلام السياسي، وسار الحزب الشيوعي في الاتجاه نفسه بدلًا من الإصلاح بالضغط الجماهيري المتوازن.

 

الخاتمة

لم تكن الورشة مجرد فعالية عابرة تُقام في سياق تكريم قامة مهنية ونقابية راسخة، بل بدت—بما انبثق فيها من أوراق وأسئلة وتصادم رؤى—أقرب إلى محكمة تاريخية وُضع فيها الوطن على المنضدة، لا لإعادة سرد ما جرى، بل لتعرية ما كان يجب أن يحدث ولم يحدث.

كانت الورشة لحظة مواجهة صريحة بين ثلاثة تيارات فكرية وسياسية مختلفة، لكنها متفقة على حقيقة واحدة: أن السودان لم يعد يحتمل رفاهية الإنكار أو تدوير الأزمة أو تلطيف الكلمات. فالحرب التي حطّمت المدن والقرى، وبدّدت مؤسسات الدولة، وشرّدت الملايين، لم تُبقِ للترف الفكري مساحة، ولا للخطاب السياسي التقليدي ملاذًا.

خرج المشاركون بوعي جمعي جديد، مفاده أن مستقبل السودان لن يصنعه حزبٌ بمفرده ولا نخبةٌ بمفردها، ولن يُستعاد عبر شعارات قديمة أو تحالفات قصيرة العمر، بل عبر إعادة تعريف الوطنية نفسها—وطنية ترى في الإنسان أصل العقد الاجتماعي، وفي النقابة سلطة المجتمع، وفي الدولة إطارًا للعدالة لا أداة للقهر، وفي السياسة واجبًا عامًا لا غنيمة خاصة.

لقد قالت الورشة، دون مجاملة أو تعمية، إن اللحظة الراهنة هي لحظة تأسيس لا تجميل، ولحظة كتابة لا اجترار، وإن السودان إذا لم يُعد بناء نفسه بروح جديدة وبأدوات جديدة وبشجاعة جديدة، فستظل الحرب تتوالد بأسماء مختلفة وأطراف متبدلة، لكن بجذر واحد لم يُنتزع بعد

=======

مهندس مستشار: عوض الكريم محمد أحمد عبد الرحيم

سنة الميلاد: 27 مارس 1941

مكان الميلاد: قرية أوي، مركز الغدار، منطقة فِتابَل.

 

المراحل التعليمية:

1948 – 1952: مدرسة الصمغية/أوي

1953 – 1957: بربر الأميرية

1958 – 1962: الخرطوم الثانوية

1963 – 1967: كلية الهندسة/جامعة الخرطوم.

الدرجات العلمية:

أبريل 1967: بكالوريوس عمارة/مرتبة الشرف الثانية.

1970 – 1972: دبلوم التخطيط العمراني للدول النامية – جامعة ليدز، إنجلترا.

1978 – 1981: ماجستير فلسفة تخطيط عمراني – جامعة الخرطوم الأكاديمية.

الجوائز الأكاديمية:

1/ جائزة الكلية للعمارة

2/ جائزة شركة شل

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى