قوات المارينز والبحرية في بورتسودان قراءة سياسية في واقع التدخل الأمريكي ومسارات المستقبل

بلا قناع
حاتم أيوب أبو الحسن
تتحرك بورتسودان اليوم في مساحة جيوسياسية حساسة، حيث يطل الوجود العسكري الأمريكي البحري ولو بقدر محدود كعامل جديد في معادلة الحرب السودانية المتمددة، ليس كأداة سياسية كما اعتادت الإدارة الأمريكية في سنوات سابقة، بل كقوة عملياتية تحمل مهام مرتبطة بالملاحة، الإجلاء، الردع، ومنع تحولات إستراتيجية تمس مصالح واشنطن وبيئتها الإقليمية. هذا التحول، وإن بدا تقنياً في ظاهره، يفتح الباب لأسئلة بالغة العمق حول مستقبل السلطة في السودان، وموقع جماعة الإخوان المسلمين في مراكز القرار غير المعلنة، وإلى أي مدى سيتم توظيف الجيش السوداني نفسه كأداة أو “طُعم” في صراع أكبر يتجاوز الحدود.
رغم أن الوجود الأميركي الحالي لا يتخذ شكل تموضع بري ثابت، إلا أن التحركات البحرية المكثفة تشير إلى مسعى لإقامة مظلة مراقبة وردع على شريط البحر الأحمر، تحسباً لانهيار الوضع الأمني في الشرق، أو لإلتقاط أي تحول مفاجئ في موازين القوى داخل بورتسودان التي أصبحت المركز السياسي والإداري بحكم الأمر الواقع. وفي خلفية المشهد، تتحرك واشنطن ضمن استراتيجية واضحة: الحد من تغلغل اللاعبين الدوليين المنافسين، ومنع تشكّل قواعد دائمة قد تعيد رسم خريطة النفوذ في البحر الأحمر لعقود مقبلة.
في هذا السياق، يبرز الدور غير المعلن لبعض القوى الإسلامية التي ما تزال تمسك بخيوط الإدارة في مؤسسات الدولة، رغم غيابها العلني، وتستفيد من حالة التفكك العامة لإعادة إنتاج نفوذها عبر شبكات إقتصادية وأمنية عميقة. وجود القوات الأمريكية يضع هذه المجموعات أمام إختبار صعب، إذ يحدّ من قدرتها على المناورة ويزيد الضغط عليها في ملف حساس مثل الموانئ والبحر الأحمر، بينما تتعامل واشنطن بحذر مع المؤسسة العسكرية السودانية، التي تبدو في بعض اللحظات وكأنها تُقدَّم “كواجهة” أو وسيط إجباري لإدارة الاتصال غير المباشر مع القوى الإسلامية داخل مؤسسات الدولة.
ينفتح المشهد بذلك على إحتمال إحتكاك سياسي—وربما أمني—بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وبين التيار الإسلامي الذي يسعى لاستعادة السلطة من جهة أخرى، خاصة إذا شعرت هذه القوى بأن الوجود الأمريكي يهدف إلى الحد من تمددها أو ضرب شبكاتها التنظيمية. ورغم أن العالم اليوم أقل استعداداً لخوض صراعات أيديولوجية كبرى على الطريقة القديمة، إلا أن إعادة تدوير خطاب “الهيمنة الغربية” قد تتحول إلى ورقة داخلية محفزة للمواجهة، خصوصاً في ظل توتر شعبي واسع، وتدهور إنساني خانق، وانعدام شبه تام للخدمات.
الخطورة الحقيقية لا تكمن في المواجهة المباشرة بقدر ما تكمن في تحول بورتسودان إلى ساحة تنافس نفوذ بين قوى دولية تتقاطع مصالحها ولا تتكامل، وهو ما قد ينتج سلسلة من الاشتباكات غير المباشرة، ويدفع أطرافاً محلية للاستقواء بالخارج أو تقديم تسهيلات استراتيجية دون تفويض وطني. كذلك يحمل المشهد إحتمال انزلاق المنطقة إلى سباق قواعد بحرية، ينعكس مباشرة على خطوط التجارة، ويزيد هشاشة الأوضاع الإنسانية التي تشهد بالفعل مستويات غير مسبوقة من الانتهاكات والنزوح وغياب الحماية.
في المقابل، لا يزال السيناريو الأفضل ممكناً: تسوية سياسية مرحلية تضمن حماية الموانئ وخطوط الملاحة عبر ترتيبات رقابية محدودة وغير عسكرية، تبتعد عن استدعاء القوى الأجنبية أو تحويل البحر الأحمر إلى منصة صراع دولي، وتفتح الباب أمام معالجة شاملة للانهيار الإنساني والخدمي. غير أن هذا السيناريو يظل رهين الإرادة الإقليمية والمصالح الدولية المتشابكة، فضلاً عن مدى إستعداد الأطراف السودانية للتنازل عن رهانات النفوذ وتغليب مسار الدولة على حساب مسار الجماعات.
هكذا تقف بورتسودان اليوم أمام مفترق طرق حقيقي: إما أن تتحول إلى نقطة ارتكاز لتسويات تحول دون الانفجار، أو أن تصبح منصة لصراع جديد متعدد المستويات، يتداخل فيه المحلي بالإقليمي والدولي. وما بين التدخل الأمريكي المحدود، والتمدد الإسلامي المؤثر في مؤسسات الدولة، وتفتت الجيش إلى أدوار متغيرة، يبقى مستقبل الشرق مفتوحاً على احتمالات متناقضة، لا يفصل بينها سوى سلسلة قرارات مصيرية ستتخذ في صمت خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.





