حرب السودان تفاقم أزمة الصحة النفسية

أفق جديد
ألقت حرب السودان المدمرة بظلال قاتمة على الصحة النفسية وإدمان المخدرات في ظل تدهور الأوضاع الأمنية والإقتصادية وتصاعد معدلات الفقر في صفوف العالقين في مناطق النزاعات ودور إيواء النازحين في شتى أنحاء البلاد.
وتتفاوت مستويات الصدمة النفسية التي أفرزتها الحرب الدموية في القوة وحجم الأضرار الكارثية إثر طبيعة الأحداث والمشاهد العنيفة والانتهاكات التي تعرضت لها العائلات والأفراد من إذلال وقهر وإغتصاب
وحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، كان لدى السودان قبل إندلاع الحرب 60 طبيبًا نفسيًا، لم يتبق حاليًا منهم سوى 20 فقط، أي ما يعادل طبيبًا نفسيًا واحدًا لكل 2.5 مليون شخص، وهو رقم مفزع مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 25 لكل 100 ألف شخص.
وتعرض القطاع الصحي في السودان إلى تدهور كبير، وأسفرت الحرب عن خروج أكثر من 70 في المئة من مؤسسات القطاع عن الخدمة بما في ذلك جزء كبير من مؤسسات الرعاية النفسية.
وتعرض القطاع الصحي لتدهور كبير، حيث أدت الحرب إلى خروج أكثر من 70 في المئة من مؤسسات القطاع عن الخدمة بما في ذلك جزء كبير من مؤسسات الرعاية النفسية.
وأشار 63 في المئة ممن شاركوا في إستبيان أجراه المركز الكندي للأبحاث العلمية حول مستويات الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد صدمة الصراع في السودان، إلى أنهم لم يحصلوا على أي دعم نفسي بعد فرارهم من مناطق القتال رغم حاجتهم إلى ذلك.
وشددت الدراسة على أهمية التدخلات وأنظمة الدعم المصممة لتلبية الاحتياجات الفريدة للأفراد المتضررين من صدمات الحرب خصوصًا في ظل التأثير الكبير للصدمة المرتبطة بالحرب على الصحة العقلية.
إرتفاع معدلات الأمراض النفسية
وكشفت وزارة الصحة الاتحادية، عن إرتفاع ملحوظ في مُعدلات الأمراض النفسية بالسودان، وأكدت أن تدهور الأوضاع خلال فترة الحرب ضاعف الحاجة إلى تدخلات عاجلة وإطلاق خطة اتحادية لإعادة تأهيل مستشفيات الطب النفسي ومراكز علاج الإدمان.
وناقش إجتماع موسع بمكتب وزير الصحة في مدينة بورتسودان شرقي السودان، تدهور الأوضاع النفسية، بحضور استشاري الطب النفسي والمسؤول عن ملف الوقاية من المخدرات وعلاج الادمان د. يس عباس وداعة، وعدد من قيادات الوزارة.
وقال وزير الصحة بروفيسور هيثم محمد إبراهيم، إن الاضطرابات النفسية تشهد ازديادًا عالميًا، غير أن الوضع في السودان أكثر تعقيدًا بسبب الحرب والانتهاكات التي طالت المدنيين.
موضحًا أن الوزارة تعمل على تعزيز الوعي وتوفير خدمات تساعد في الاكتشاف المبكر وتسهيل الحصول على العلاج.
ودعا الوزير إلى تبني رؤية شاملة للصحة النفسية وتخصيص ميزانيات تكفل تطوير المجال داخل النظام الصحي.
ازدياد معدلات الصدمة النفسية
وحسب تقرير نشرته جمعية علماء النفس السودانيين على صفحتها في “فيسبوك” فإن نشر الشائعات المرتبطة بأخبار الحرب والقتال زاد من معدلات الصدمات النفسية.
وذكر التقرير أن الشائعات المرتبطة بالتهديد كانت الأكثر تأثيرًا وخطرًا حيث تجعل المتلقي في حالة من الشك والخوف المستمر، مما يؤدي إلى الإصابة بقلق دائم. ويضيف: “عادة تكون الشائعة في حالة الحرب أكثر خطرًا من الطلقة لأنها تتسبب في زرع الخوف وتفقد الشخص ثقته في نفسه”.
ووفقًا لدراسة أجراها المركز الأميركي لأبحاث الصحة العامة، فإن 62 في المئة ممن بقوا أكثر من 30 يومًا في مناطق القتال في السودان يتعرضون لاضطرابات نفسية بدرجات وأنواع متفاوتة من بينها الاكتئاب والقلق والأرق والخوف والإدمان.
وكشفت دراسة حالة على 443 طالبًا أجراها 6 باحثين في كلية الطب بجامعة الخرطوم ونشرتها منصة “أبحاث الطب النفسي العالمية” عن معاناة أعداد كبيرة من طلاب الجامعات في المناطق التي مزقتها الحرب في السودان من مستويات عالية من التوتر والقلق والاكتئاب.
تأهيل مرضى إدمان المخدرات
وأوضحت وزيرة الرعاية الاجتماعية، سليمى اسحاق، في حديثها لـ”أفق جديد”، أن سياسة وزارة الصحة تركز على الرعاية الصحية الأولية، بما في ذلك الصحة النفسية وتقديم خدمات الصحة الإنجابية وخدمات النساء والعنف ضد المرأة وهي الأكثر انتشارًا.
وأوضحت اسحاق، أن الرعاية الصحية الأولى تشمل تقديم الخدمات النفسية، كما أن طب الأسرة يقدم أيضًا الإرشاد النفسي لزيادة وعي المرضى، بالإضافة إلى الكشف المبكر للإعاقات ومشاكل المراهقين والفجوة في الصحة النفسية.
وأشارت الوزيرة إلى أن التوجه حاليًا يتمثل في تقديم الحد الأدنى من الخدمات الطبية، وإصلاح المؤسسات وزيادة المؤسسات التخصصية وتأهيل مرضى إدمان المخدرات المتأثرين بالصدمات النفسية.
وكشفت وزيرة الرعاية الإجتماعية، عن مشاريع ترتبط بالأحياء السكنية وتوعية المجتمع وتقديم خدمات تعزيز الصحة النفسية خاصة وأن التحدي كبير والأرقام في تصاعد مستمر.
ونبهت إلى أن كل أطباء النفس في السودان يعملون دون إنتظار مكافأة وينشئون مبادرات والذهاب إلى دور الإيواء لتقديم الخدمات الطبية في الصحة النفسية.
لافتة إلى أن الصحة النفسية مرتبطة بتعزيز العمل الإنساني وتوفير الخدمات الأساسية وتقديمها للمواطنين وهي منظومة متكاملة مرتبطة بكرامة الإنسان ووصوله إلى الخدمات الضرورية.
وشددت الوزيرة على أن الحرب مرتبطة بالصحة النفسية، والسبب الأساسي في ذلك هو عدم الإحساس بالأمان والاحتواء.
جدير بالذكر أن قسم الصحة النفسية بمستشفى “النو” التعليمي بمدينة أم درمان أقام في 13 أكتوبر الجاري، فعالية الاحتفال باليوم العالمي للصحة النفسية لعام 2025، تحت شعار: “الوصول إلى خدمات الصحة النفسية في أوقات الكوارث والطوارئ”.
ويجئ الاحتفال في إطار الجهود المستمرة لتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية دعم الصحة النفسية خلال الأزمات والكوارث، وتسليط الضوء على إنجازات قسم الصحة النفسية بالمستشفى خلال العامين الماضيين، تأكيدًا على أن الصحة النفسية حق للجميع، حتى في أحلك الظروف.
الدعم النفسي الأولي
بالنسبة إلى الاختصاصي النفسي، د. أنس ابن عوف، فإن التدخلات العاجلة في ظل استمرار الحرب تتطلب تأمين السلامة للمتأثرين بالحرب وتقييم الحالات من الناحية النفسية، وتقديم الدعم النفسي الأولي خاصة وأن متطلباته محدودة ولا يحتاج إلى أطباء، وإنما أشخاص لديهم نوع من التأهيل البسيط لتقديم الدعم النفسي الأولي.
وشدد ابن عوف في حديثه لـ”أفق جديد”، على ضرورة إنشاء خدمات نفسية سريعة بتكلفة منخفضة. وأضاف: “هناك عيادات خاصة لكن الدولة والمنظمات ينبغي عليها إنشاء خدمات نفسية بتكلفة منخفضة لأن الخاص لا يغطي العجز، ولا يستطيع كل المرضى الوصول إلى العيادات الخاصة، ولا بد من توفير خط ساخن للعلاج النفسي وإنشاء مراكز دعم نفسي في أماكن النزوح”.
ونبّه إلى ضرورة إيجاد تدخلات طويلة المدى وتأمين الأدوية النفسية الأولية الأساسية ودعم المستشفيات القائمة وتفعيل دور التدخلات النفسية عن بعد بصورة منضبطة وفعالة حتى لا تحدث تجاوزات، مع إمكانية الاستفادة من المتطوعين في مجال الصحة النفسية داخل وخارج البلاد.
من جهته أكد اختصاصي علم النفس، د. صابر عوض، على ضرورة الحصر والتعريف عن أهمية العلاج بأسرع الطرق، وتوفير أماكن للعلاج مثل المصحات والعيادات النفسية في القرى والمجتمعات الريفية.
وشدد عوض في حديثه لـ”أفق جديد”، على أهمية تحديد الأمراض النفسية الشائعة والسعي للوصول إلى حل جذري للمشكلات المسببة للأمراض النفسية والاضطرابات كذلك.
وطبقًا لمفوضية شؤون اللاجئين، فإن 71% من اللاجئين السودانيين الفارين من القتال تحدثوا عن نجاتهم من انتهاكات عرضتهم لمستويات من الصدمة النفسية المدمرة.
إضافة إلى البعد الأمني والسياسي، تزايدت الكلفة النفسية للحرب السودانية بسبب تداخلاتها العرقية والدينية، والسياسية وضخامة الخسائر البشرية والانتهاكات التي صاحبتها.
يؤكد خبراء الصحة النفسية أن فقدان الأقارب والأعزاء بشكل بشع كان واحدًا من أكثر الأسباب شيوعا للاضطرابات النفسية التي يشتكي منها مرضاهم، إضافة إلى الاضطرار لترك الديار والفرار من البيوت وترك الذكريات المرتبطة بها وفقدان العمل والدخل والخوف على المستقبل.





