عثمان فضل الله يكتب : النفط “ورقة دم” .. تعقيب على مقال د. الواثق كمير الاخير

في مقاله الأخير حول “هجليج… النفط كورقة حرب وضغط سياسي”، قدّم الدكتور الواثق كمير قراءة مهمة لطبيعة الصراع في منطقة هجليج، ومحاولة لفهم التحولات التي جعلت من النفط أداة نفوذ تتجاوز كونه مورداً اقتصادياً. غير أنّ التحليل، رغم غناه، لم يتناول بعض العناصر الجوهرية التي لا يمكن فهم حاضر هجليج من دونها. وهذه المقالة تأتي ردّاً واستكمالاً لما طرحه د. الواثق، لا نقضاً له، إذ يظل للرجل إسهامه الفكري المقدر، لكن الصورة تبدو بحاجة إلى تفاصيل أغفلها المقال، وربما كانت ستغير من مسار التحليل لو أُدرجت منذ البداية.
أول ما غاب عن مقال د. الواثق أنّ انسحاب الجيش من هجليج لم يكن نتيجة انهيار ميداني، بل جاء وفق اتفاق ثلاثي جمع بين جوبا ونيالا وبورتسودان، اتفاق أنتج ترتيبات واضحة بخصوص وجود القوات والسيطرة على المنشآت. وهذا يعني أنّ الدعم السريع لم يحصل على الحقول بسطوة السلاح وحدها، بل صار—ضمن اتفاق سياسي وأمني—شريكاً في ترتيبات النفط، وأن له، من حيث المبدأ، نصيباً من العائدات مهما كان حجمه. تجاهل هذه الحقيقة يجعل الصورة ناقصة، لأن السيطرة الحالية ليست مجرد واقع عسكري، بل نتاج تفاهمات أعادت توزيع السلطة في واحدة من أهم مناطق السودان الاقتصادية.
ثم إن الحديث عن اعتماد جنوب السودان على النفط يظل غير مكتمل ما لم يُذكر أنّ كميات معتبرة من هذا النفط مباعٌ مسبقاً لدولة الإمارات العربية المتحدة، ضمن صفقة معروفة للعلن. وهذا يضيف لاعباً إقليمياً ثقيلاً إلى مشهد الصراع، ويجعل التدفقات النفطية ليست مسألة سودانية – جنوب سودانية فقط، بل ملفاً تمسّه مصالح دولة كبرى أصبحت مالكة فعلية لجزء من الخام المتجه لبورتسودان. الصراع على هجليج يصبح، بهذا المعنى، صراعاً على حماية تلك الاستثمارات وعلى ضمان استمرار العائدات، لا مجرد سباق نفوذ بين الخرطوم وجوبا أو بين الجيش والدعم السريع.
ودخول قوات جنوب السودان إلى هجليج، وهو أمر أشار إليه المقال من بعيد، لا يمكن التعامل معه كجزء عابر من الترتيبات الميدانية. فوجود جيش دولة مستقلة داخل أراضٍ سودانية يفرض واجباً سياسياً وأخلاقياً في إعلان تفاصيل الاتفاق للرأي العام: ما هي مدة هذا الوجود؟ ما صلاحيات القوات؟ ما شروط خروجها؟ وكيف يتم التنسيق بينها وبين القوة المسيطرة على الأرض؟ فمع تقديرنا لدولة جنوب السودان، لا يمكن تجاهل أن جوبا سبق ودخلت هجليج بقوة السلاح، وأن شكوكاً قديمة ظلت تحوم حول ملكية بعض الحقول. بل إن أسئلة إضافية تفرض نفسها: هل سيكتفي الجيش الشعبي بهجليج، أم أنّ وجوده قد يتجه إلى حقول مجاورة مثل دفرة، خاصة في ظل حديث جنوبي سابق عن “نقطة تجميع” كان يُقال إنها تُجَنِّب بعض نفط الجنوب لصالح الخرطوم؟
وعند محاولة الإجابة عن سؤال من المستفيد الحقيقي من الوضع الحالي، لا تبدو الصورة كما قدّمها المقال. فالدعم السريع أصبح طرفاً رسمياً في ترتيبات النفط عبر الاتفاق الثلاثي. وجوبا ضمنت استمرار تدفق النفط عبر تفاهمات تتجاوز الخرطوم وحدها. وبورتسودان قبلت هذه الترتيبات، ربما لاعتبارات سياسية أو أمنية. والإمارات، بصفتها مشترياً وممولاً، لها دور مباشر في حماية مصالحها. أمّا الخاسر الأكبر فهو الشعب السوداني، الذي لم يحصد من هجليج سوى مزيد من الدماء. فكل برميل يتدفق شمالاً يتحوّل إلى عائد يذهب لتمويل الحرب، لا الخدمات ولا الأمن ولا إعادة الإعمار، في حين تتحول السيطرة على الحقول إلى ورقة تفاوضية تزيد زمن الصراع وتعمّق فوضى السلاح.
وربما كان من المهم لو تناول مقال د. الواثق هذه الأسئلة والاتفاقات بصراحة أكبر، لأنها تشكل جوهر ما يجري الآن في هجليج. فالقضية اليوم ليست من يسيطر على الحقول، بل بأي اتفاق، ولحساب من، وبأي ثمن يُباع هذا النفط، ومن يقرر في شأنه، ومن يحصد عائداته، ومن يدفع الفاتورة. وما دام النفط يُدار في غرف مغلقة، وتُوزع عائداته بين أطراف الحرب، فإن هجليج لن تكون مورداً وطنياً، بل نقطة اشتعال جديدة، وخزاناً لتمويل الخراب، ومساحة نفوذ تتقاطع فيها مصالح الإقليم قبل مصالح السودان.
وهذا ما كان ينبغي أن يتوقف عنده المقال الأصلي، إذ إن جوهر الأزمة ليس في سيطرة طرف على الحقول، بل في أنّ النفط ذاته أصبح وقوداً للحرب، وورقة تُقايض بها السيادة، ويُدفع ثمنها من دم المواطن لا من جيوب صناع القرار. في هذا السياق، تبدو هجليج مثالاً صارخاً على أن الثروة حين تُدار بلا شفافية وبلا دولة تصبح نقمة، وأن الطريق من هجليج إلى بورتسودان قد يكون مليئاً بالبراميل، لكنه مفروش بدماء السودانيين، لا بمصالحهم ولا بخير بلادهم.





