
بقلم : ابراهيم هباني
ما جرى في هجليج (الغنية بالنفط)، لا يمكن فهمه بوصفه حدثا عسكريا خالصا، ولا تطورا ميدانيا معزولا عن سياقه الأوسع. هو مشهد “سياسي، اقتصادي بارد”، تتحرك فيه الأطراف بسرعة عندما يقترب الخطر من مورد استراتيجي، وتتباطأ عندما يقترب من حياة المدنيين.
في هجليج، انسحب الجيش السوداني بهدوء، ودخلت قوات الدعم السريع الحقل النفطي بلا مقاومة تذكر، ثم جرى تأمين المنشأة الحيوية التي يعتمد عليها اقتصاد جنوب السودان.
لم ترافق المشهد بيانات تصعيد، ولا جولات تفاوض طويلة، ولا ضجيج سياسي. اتفاق سريع، ترتيبات واضحة، وهدوء لافت.
السبب واضح:
الحقل شريان اقتصادي لبلدين، وله وزن مباشر في حسابات إقليمية ودولية تراقب النفط أكثر مما تراقب مسارات الحرب.
هذه الزاوية لا تنطلق من فراغ. فقد وضع د. الواثق كمير، في مقاله الراتب بصحيفة التغيير، النفط في قلب معادلة الصراع، بوصفه ورقة حرب وضغط سياسي تعيد تشكيل موازين القوة بين الخرطوم وجوبا.
وفي الاتجاه نفسه، وسع أستاذ عثمان فضل الله، عبر New Horizon، دائرة النقاش حين انتقل من توصيف السيطرة الميدانية إلى تفكيك التفاهمات والترتيبات غير المعلنة التي تحكم مصير الحقول وتدفق العائدات.
غير أن الإشكال الحقيقي لا يكمن في اختلاف هذه القراءات، بل في ما تكشفه مجتمعة:
أن ما يدار بعجلة في السودان اليوم هو ملف النفط، لا ملف الإنسان.
خارج هجليج، تبدو الصورة معكوسة تماما.
الفاشر عاشت أكثر من 500 يوم تحت الحصار. جوع، انهيار، وموت بطيء، من دون انسحاب تكتيكي، ولا مبادرة عاجلة، ولا توافق استثنائي لتجنيب المدنيين الحرب.
وبابنوسة صمدت لما يقارب 680 يوما بين حصار واشتباكات وانقطاع، قبل أن تسقط وينزح منها ما لا يقل عن 45 ألف شخص، من دون أن تتحرك الوساطات أو تُستدعى العجلة السياسية التي ظهرت فجأة في هجليج.
الفارق هنا ليس في حجم المأساة، ولا في عدد الضحايا. بل الفارق أن الفاشر وبابنوسة لا تضخان نفطا.
عندما يتهدد البرميل، تعاد صياغة المواقف خلال ساعات.
وعندما يتهدد الشعب السوداني، يترك الأمر لطول النفس وقصر الذاكرة.
تحرك جنوب السودان في هجليج مفهوم من زاوية مصالحه، فبقاء اقتصاده مرتبط بأنبوب يمر عبر السودان.
ومراقبة الصين مفهومة كذلك، لأن مصالحها التاريخية في قطاع النفط تجعل استقرار الحقول أولوية تتقدم على كل شيء.
أما الأطراف السودانية، فقد أظهرت قدرة عالية على الاستجابة السريعة عندما تعلق الأمر بالموارد، وبطئا مزمنا عندما تعلق الأمر بالمدن.
هنا تتضح المعادلة بلا رتوش:
هجليج حسمت لأنها مربحة. أما المدن، فتركت لأن كلفتها بشرية فقط.
المأساة ليست في من يسيطر على الحقول، بل في أن النفط ذاته تحول إلى وقود للحرب، وورقة تفاوض على السيادة، بينما بقي الشعب خارج الحسابات.
كل برميل يعبر شمالا يتحول إلى عائد يمول الصراع، لا إلى خدمة ولا إلى أمن ولا إلى إعادة إعمار.
وكل مدينة بلا نفط تتحول إلى مساحة مفتوحة للموت، بلا حماية وبلا استعجال.
في المحصلة، لا يحتاج السوداني إلى كثير تحليل ليعرف أين يقف.
الاتفاق تم عند هجليج .. أما السودان، فما زال ينتظر .