ثورة ديسمبر باقية، لا بوصفها حدثًا مؤرشفًا في دفاتر السياسة، ولا كحنين رومانسي إلى أيام الهتاف الأولى، بل لأنها لحظة تحوّل جذري في وعي شعبٍ استعاد حقه المسلوب في تعريف نفسه، وفي إعادة كتابة تاريخه، وفي تخيّل مستقبله خارج وصاية الطغاة وأوهامهم. ما جرى في ديسمبر 2018 لم يكن انفجار غضبٍ عابر، بل كان انكسارًا نهائيًا لجدار الخوف، واكتشافًا جمعيًا لحقيقة ظلّت مُغيّبة طويلًا: أن السلطة ليست قدرًا، وأن الاستبداد ليس أبدًا، وأن الشعب – حين يريد – يصنع المعجزة.
يوم خرج طلاب الدمازين في الثالث عشر من ديسمبر، خرجوا بلا تعليمات، وبلا غرف عمليات، وبلا مموّلين خفيين كما ادّعى الخطاب المريض للسلطة. خرجوا لأن الكرامة ضاقت بها الصدور، ولأن الظلم حين يطول يفقد قدرته على التخفي، ويتحوّل إلى عارٍ فاضح. بذلك الخروج العفوي، كُتبت السطور الأولى في شهادة وفاة نظامٍ ظنّ أنه خالد، وتنظيمٍ اعتقد أن السيطرة على الدولة تعني السيطرة على المجتمع والتاريخ والضمير معًا.
ذلك التنظيم لم يكتفِ بقمع السياسة، بل سعى إلى اختطاف الروح السودانية نفسها، أراد أن يكتب لهذا البلد تاريخًا مزوّرًا، وأن يفرض عليه دينًا مُسيّسًا منزوع الرحمة، لا يعرف التسامح ولا المودة ولا التعدّد، دينًا يُختزل في الطاعة، وتُختصر فيه الأخلاق في الولاء، وتُحوَّل فيه الشخصية السودانية – الغنية بتنوعها وبساطتها – إلى مشروع كراهية دائم، يحيط نفسه بحزام ناسف، ويكفّر المجتمع إن لم يسلك “أضيق الطرق” التي رسمها التنظيم لنفسه.
منذ لحظة ديسمبر الأولى، دخلت الحركة الإسلاموية في صدام مباشر مع حركة التاريخ، واختارت – بكامل وعيها – أن تقف في الجهة الخاطئة، لم تحاول أن تفهم، لأنها عاجزة عن الفهم، لجأت أولًا إلى تشويه الثورة أخلاقيًا وسياسيًا، فاتهمت الثوار بالعمالة، وصوّرت الشارع كدمية تحرّكها السفارات. كان ذلك اعترافًا غير معلن بعجزها الذهني والأخلاقي: فهي لا تستطيع أن تتخيّل فعلًا جماهيريًا نقيًا، لأنها لم تمارس السياسة يومًا إلا بوصفها مؤامرة، ولم ترى الشارع يوميا اللا من خلال عدستها الخربة.
وحين اتّسعت رقعة الاحتجاجات، وانحازت المدن والقرى، والهامش والمركز، إلى هتافٍ واحد،” تسقط بس” سقط خطاب التخوين كما سقطت الأقنعة الرخيصة، عندها عادت الحركة إلى لغتها الأصلية: القمع. الرصاص في مواجهة الهتاف، والسحل في مواجهة الحلم، والقتل باعتباره أداة سياسية مشروعة لكنها أخطأت الحساب مرة أخرى فالدم لم يُطفئ الشارع، بل عمّده، وحوّل الثورة من احتجاجٍ على الغلاء والفساد إلى معركة وجود، شعب يريد الحياة، وسلطة لا تعيش إلا بإخضاعه
سقط النظام، لا فجأة ولا مصادفة، بل تحت ثقل مقاومة يومية طويلة أنهكته وعرّته وكشفت خواءه وحين فشلوا في كسر الشارع، حاولوا الالتفاف على الثورة من داخل مؤسسات الدولة، تعطيل الانتقال، إفراغه من مضمونه، ثم الانقضاض عليه حين أدركوا أن روح ديسمبر عصيّة على الاحتواء، لجأوا الى الانقلاب عليها وحتى انقلابهم لم يكن سوى فصل جديد من الفشل، لأن الشارع الذي أسقط ديكتاتورًا، لم يكن ليستسلم لعسكرٍ يرتدون الأقنعة ذاتها ويستعيرون الخطاب نفسه.
وعندما سُدّت كل الطرق، أشعلوا الحرب، بوصفها الخيار الأخير لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولإغراق البلاد في الفوضى، علّ السؤال عن الشرعية والعدالة يضيع وسط الدخان. لكن الحرب، رغم فداحتها، لم تكن دليل قوة، بل شهادة عجز تاريخي كامل: عجز عن بناء دولة، عجز عن كسب شعب، وعجز عن الانتصار حتى بالسلاح، فقد كشفت أن الحركة الإسلاموية لا تملك مشروع حياة، بل مشروع خراب، وأنها لا تستطيع العيش إلا فوق أنقاض الأوطان.
لهذا كلّه، فإن ديسمبر لم تمت، ولن تموت، قد تنكسر الطرق، وقد تتأخر المواعيد، وقد يثقل الثمن، لكن المعنى الذي وُلد في ديسمبر باقٍ، ينتقل من جيلٍ إلى جيل، ديسمبر باقية لأنها هزمت وهم الخلود في السلطة، وباقية لأن شعبًا جرّب أن يقول «لا» مرة، لن يتعلّم الصمت مرة أخرى، ديسمبر ليست ذكرى، بل معيار أخلاقي وسياسي، وبوصلة لا تزال – رغم العتمة – تشير إلى أفق جديد.