حين نطقت العدالة باسم دارفور.. الحكم على علي كوشيب بالسجن عشرين عامًا

 أحمد الليثي

في قاعة المحكمة في لاهاي، حيث المقاعد مرتّبة بعناية باردة، لم يكن الحضور مقتصرًا على القضاة والمحامين والصحفيين. كان هناك حضور آخر لا يُرى: أرواح خرجت من رماد القرى المحروقة، وأسماء حملها الناجون طوال سنوات الخوف، ووجوه غابت ولم يُعثر على عظامها.

كانت كل شهادة تُتلى في القاعة تفتح نافذة صغيرة على ليل دارفور الطويل:

ليلٌ كانت فيه البيوت تُحرق بلا رحمة، والنساء يُغتصبن، والأطفال يركضون نحو الحقول ولا يعودون، والرجال يحفرون التراب بأظافرهم بحثًا عن آخر أثرٍ للحياة.

كوشيب — الرجل الذي كان يومًا ما رمزًا للخوف — وقف خلف الزجاج مُثقلًا باتهاماتٍ لم يعد ممكنًا إخفاؤها خلف صخب البنادق وسنابك الخيول. لم يكن وحده في القفص؛ كانت تقف معه ذاكرة إقليمٍ بأكمله.

واليوم، حين أدانته المحكمة، لم تنتصر السياسة… بل انتصرت الذاكرة.

انتصرت دمعةُ الأم التي لم تملك إلا أن تقول: “الله شاهد.”

وانتصر الرجلُ الذي ظل يجمع شظايا العظام ليعيد للحكاية جسدًا.

وانتصر الطفلُ الذي مات وحيدًا، ولم يجد سوى الريح لتشهد على رحيله.

وانتصرت القرى التي مُسحت من الخرائط، لكنها بقيت راسخة في قلب أهلها.

بهذا الحكم، استعادت تلك الذاكرة صوتها، وحصل الضحايا — ولو معنويًا — على شيء من الكرامة التي سُلبت منهم.

فالعدالة لا تُعيد الموتى، لكنها تعيد للغائبين أسماءهم، وتقول للجلاد: إنّ الزمان قد دار، وإن الصحراء التي ظننتها مقبرةً صامتة أصبحت اليوم شاهدًا ناطقًا لا يخاف.

فالإدانة ليست حكمًا على شخص، بل اعترافٌ بأن الألم كان حقيقيًا، وأن العالم — ولو بعد حين — سمع صرخة دارفور.

في لاهاي، لم يُحاكَم رجلٌ فقط؛

بل حُوكِم زمنٌ من الغفلة، وصمتُ عالمٍ رأى الدخان يتصاعد من القرى البعيدة… ولم يتحرّك.

وها هي دارفور — التي أرادوا لها أن تكون جرحًا منسيًا — تعود واقفةً، وتقول:

“أنا هنا… لم أمت.

دماءُ أبنائي لم تذهب سُدى.

والعدالة — وإن تأخّرت — جاءت تمشي على عكّاز الصبر.”

Exit mobile version