جون قرنق – الفارس الذي سقط على أعتاب “السودان الجديد”

أحمد عثمان محمد المبارك المحامي

يُعد الدكتور جون قرنق دي مابور الذي ولد في 1945 وتوفى في 2005 أحد أكثر الشخصيات تأثيراً في التاريخ السوداني الحديث. لم يكن قرنق مجرد قائد عسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان، بل كان مفكراً ومهندساً لرؤية سياسية عميقة تجاوزت حدود الجنوب لتطرح مشروعاً قومياً وطنياً لما أسماه “السودان الجديد”. لقد أغتيل جون قرن غدراً في حادث تحطم مروحية في 30 يوليو 2005 بعد أسابيع قليلة من توقيع اتفاقية السلام الشامل في ضاحية نيفاشا الكينية وتولى بعدها منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، ليسدل الستار على حلم كان على وشك أن يختبر على أرض الواقع.

لم يكن انفصال الجنوب الهدف الأسمى لجون قرنق، بل كانت رؤيته تتمحور حول تأسيس دولة سودانية موحدة على أسس جديدة. فقد اعتبر قرنق أن الوحدة هي الخيار الأفضل والأنسب للسودان، ولكن ليس الوحدة القائمة على الهيمنة الثقافية أو العرقية (العربية الشمالية). فقد كان يدعو إلى إرساء هوية وطنية جامعة تتجاوز الثنائية المغلوطة (العربية الإفريقية). فهو يرى أن السودان يقع عند نقطة التقاء الحضارات، ويجب أن يتبنى هوية “سودانوية” فريدة تستوعب وتفخر بالتنوع العرقي والثقافي والديني الهائل الذي يمتلكه. لم يكن السودان بالنسبة له عربياً أو إفريقياً بالمعنى الإقصائي، بل  كليهما معاً.

وشدد على ضرورة معالجة “المشكلة السودانية” في جذورها، وانهاء التهميش الاقتصادي والسياسي للمناطق الطرفية والجنوبية والغربية والشرقية لصالح المركز. وطالب بتوزيع عادل للثروة والسلطة.

وكان يدعو إلى دولة مدنية ديمقراطية تضمن حرية المعتقد وتفصل بين الدين والدولة، لضمان المساواة الكاملة في المواطنة، خاصة في مجتمع متعدد الأديان كالسودان.

لقد ضحى قرنق بحياته من أجل هذا التوجه الوطني القومي. ولم يكن تحرير الجنوب بالنسبة له غاية، بل وسيلة لتحرير الشمال نفسه من عقليته وتوحيد البلاد على أساس المواطنة المتساوية.

لقد كان رحيل قرنق نقطة تحول كارثية أدت إلى تفكك “السودان الجديد الذي كان يحلم به وعودة الواقع القديم. فلو كان قرنق على قيد الحياة الآن لكان حال السودان الآن مختلفاً جذرياً في كل المجالات.

فقد كان هو الضامن الوحيد لوحدة السودان من الجانب الجنوبي. وبالرغم من أن اتفاقية السلام الشامل كانت تتضمن بند حق تقرير المصير، فمن المرجح أن قرنق كان سيستخدم نفوذه الهائل في الجنوب والدبلوماسية لإقناع الجنوبيين بالاستفتاء لصالح الوحدة الجاذبة بدلاً من الانفصال. ولو كان حياً لأستغل موقعه كنائب أول لوضع نموذج إيجابي للتعايش في الخرطوم، الشيء الذي كان سيجعل خيار الوحدة أكثر جاذبية للناخبين الجنوبيين. وكان سيُصر على التنفيذ الدقيق لبنود تقاسم الثروة والسلطة. ولو كان قرن عائشا لكانت فترة الحكم الانتقالي قبل انفصال الجنوب (2005-2011) ستُستخدم لتطبيق نظام حكم لامركزي حقيقي ومنح الأقاليم سلطات أكبر، بالقدر الذي كان سيقلل من الشعور بالتهميش في مناطق أخرى مثل دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق ولربما كان ذلك سيساهم في احتواء أو تخفيف صراع دارفور، حيث كانت رؤيته تتوافق مع مطالب حركات الهامش.

كان جون قرنق كقائد عسكري يتمتع بشعبية، تمكنه من الاشراف على عملية دمج الجيشين (الجيش السوداني والجيش الشعبي) بطريقة أكثر مهنية، وكان سيشكّل نواة لجيش وطني بعقيدة عسكرية تعكس التنوع السوداني، بعيداً عن الولاءات الحزبية أو العرقية، مما كان سيمنع على الأرجح ظهور وتمدد الميليشيات والكيانات العسكرية الموازية لاحقاً.

وبصفته مفكراً، كان قرنق سيقود المفاوضات حول صياغة الدستور الدائم لإنجاز دولة مدنية غير دينية، تكرّس الهوية السودانوية الجامعة وتُنهي أزمات الهوية المزمنة في البلاد.

ان رحيل جون قرنق لم يترك فراغاً سياسياً في الجنوب فحسب، بل ترك فراغاً في العقل السياسي السوداني. وبموته فقد السودان المهندس القادر على ترجمة اتفاق السلام إلى مشروع وطني قومي. ولكان السودان لو بقي قرنق حياً، دولة أقل عرضة للانقسام، أكثر عدلاً في توزيع ثروتها وسلطتها، وأكثر استقراراً على المدى الطويل. وكان يمكن أن يكون السودان نموذجاً للتعددية والتعايش في منطقة كثيرة الاضطراب.

أما اليوم، فالسودان يعيش حالة من التفكك والصراع الأهلي بعودة شبح الحرب الأهلية في أشكال متعددة، بما في ذلك الحرب المدمرة الحالية بين الجيش وقوات الدعم السريع، بالإضافة إلى التمزق الاجتماعي والسياسي الذي نعيشه الآن.. هذا الواقع المأساوي هو نقيض “السودان الجديد” الذي حلم به جون قرنق وبذل حياته من أجله.

مات الرجل وعاش حلمه في ذاكرة جيل، والواقع السوداني الحالي هو الدليل الأقسى على أهمية تلك الرؤية وعلى الخسارة الفادحة التي مني بها الوطن بغيابه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى