ديسمبر  بين ظلال البنادق وذاكرة السلمية

الزين عثمان 

في عامها السادس، لم تعد ديسمبر تُعنى بطرح سؤال النصر الذي يبدو، في وجدان المؤمنين بها، قدراً لا فكاك منه، بقدر ما بات السؤال أكثر مرارة وعمقاً: هل يمكن لبذرة ديسمبر أن تنبت في أرض من انقلبوا عليها، أم أن تلك الأرض قد أُنهكت بما يكفي لرفض الحياة ذاتها؟

في وقت سابق، أعلنت اللجنة العليا للاستنفار والمقاومة الشعبية عن تنظيم وقفة وطنية صباح السبت 13 ديسمبر 2025، تعبيراً عن التضامن والمساندة للقوات المسلحة. ووفقاً لوكالة السودان للأنباء، أكد رئيس اللجنة، الفريق ركن بشير مكي الباهي، اكتمال كافة الترتيبات للوقفة، مشيراً إلى تنسيق واسع شمل ولاة الولايات، وديوان الحكم الاتحادي، وممثلي الجاليات السودانية بالخارج، بهدف ضمان أوسع مشاركة وطنية ممكنة.

وشهد يوم السبت خروج مواكب جماهيرية في عدد من المدن السودانية، دعماً ومساندةً للقوات المسلحة، تحت شعار: «جيش واحد.. شعب واحد». وفي تفاعل مع هذا الاصطفاف الشعبي، غرّد القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، مؤكداً أن الشعب السوداني ظل السند والظهير ومصدر القوة والثبات والفداء، وأن هذا الدعم يمثل ركيزة أساسية في معركة الحفاظ على الوطن. وأضاف أن القوات المسلحة ستبقى وفية لعهدها مع الشعب، حصناً وأمناً ووفاءً، معرباً عن ثقته في نصر قريب بقوله: «نصرٌ من الله وفتحٌ قريب».

عودة الحراك الجماهيري والصوت المدني وُصفت، من قبل الناطق الرسمي باسم تحالف «صمود» جعفر حسن، بأنها خطوة إيجابية يمكن البناء عليها من أجل إيصال صوت المدنيين السودانيين ومواقفهم مما يجري في البلاد. غير أنه حذّر في الوقت ذاته من توظيف هذا الحراك لإعادة تفويض العسكر، لا سيما وأن أصحاب الدعوة الأولى للتغيير اعتمدوا السلمية نهجاً ومنهجاً.

في المقابل، دعت منصات تابعة لمؤيدي الحرب وبعض منسوبي النظام المعزول إلى مسيرات داعمة للقوات المسلحة، ومفوِّضة لها لحسم التمرد، مع المطالبة بتصنيف قوات الدعم السريع منظمةً إرهابية. وفي هذا السياق، رأت الكاتبة الصحفية رشا عوض أن «آخر ما يحتاجه الجيش في وضعه الحالي هو التفويض لمواصلة تدمير نفسه وتدمير الوطن»، مؤكدة أن الجيش بحاجة إلى إعادة بناء، أو على الأقل إلى إصلاحات هيكلية عميقة تفضي إلى إعادة بنائه تدريجياً. وأبدت عوض دهشتها من دعوات تأييد الحرب التي فاقمت معاناة المدنيين، مشيرة إلى أن القذائف والرصاص الطائش لا تزال تحصد أرواح الناس في بيوتهم، وتدفعهم قسراً إلى النزوح.

وبالنسبة لكثيرين، لم يكن اختيار توقيت هذه المسيرات محض صدفة؛ فـ«قوى الردة»، كما يسميها داعمو ديسمبر، اختارت ذكرى انطلاق الثورة التي أطاحت بها، وكأنها تسعى للثأر، وإعادة رسم الخارطة السياسية السودانية بما يضمن عودتها إلى الصعود، حتى ولو كان ذلك على أن  وطن أشعلت فيه الحرب قصاصاً لسقوطها. ومن هذا المنظور، يرى هؤلاء أن المسيرات الداعمة للجيش تصب في مصلحة مشروعهم السياسي، وتمثل هزيمة لمشاريع القوى التي تستند إلى إرث مواكب ديسمبر، وهو ما تجلى في بعض التغريدات التي اعتبرت تلك المواكب قبراً لسابقتها، ونهاية لحلم الرافضين لشرعية ما يُعرف بحرب الكرامة.

في المقابل، يذهب فريق آخر إلى ضرورة التمييز بوضوح بين نصرة الجيش بوصفه قوة تقاتل، وبين تبني مشروع سياسي للحرب وأهدافه المعلنة. فثمة قطاعات واسعة من المواطنين اصطفت خلف الجيش، لا إيماناً بمشروع الحرب السياسي، بل باعتباره البندقية التي تحمي وجودهم وأمنهم في مواجهة بندقية أخرى يرون فيها تهديداً مباشراً لهم.

ومن نيالا، يؤكد علا نقد، الناطق الرسمي باسم تحالف «تأسيس»، الاستمرار في السعي لتحقيق أهداف الثورة المجيدة، وتحرير البلاد من «الفئة الإرهابية وجيشها المجرم والمليشيات المتحالفة معها»، على حد وصفه، مع التشديد على أن الأيدي ستظل ممدودة للسلام؛ السلام الذي طال انتظاره في دروب النزوح ومنافي اللجوء، ولم تخذله قلوب ما تزال مؤمنة بحتمية الانتصار وممتلئة بالأمل.

وفي الأيام الماضية، خرجت في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع مظاهرات مؤيدة لها، في تأكيد لحقيقة بسيطة لكنها جوهرية: لكل طرف مؤيدوه، ولكل بندقية جمهورها. غير أن السؤال الأهم يظل معلقاً: أين يقف جمهور الديسمبريين مما يجري في هذه اللحظة المفصلية؟

بالتزامن مع الحراك في الشوارع ببعض المدن، استعاد الديسمبريون ثورتهم ومشاهدها في الفضاء الأسفيري، بعدما ضاقت الشوارع بصوت الرصاص. فالرصاصة اليوم تقتل، والصمت قد يكون نجاة مؤقتة. وفي واقعهم الافتراضي، حدّدوا مواقفهم من الطرفين، بالسخرية من مشهد الحرب من جهة، وبالتأكيد من جهة أخرى على الفارق الجوهري بين ديسمبر، بوصفها ثورة سلمية خالصة، وبين مواكب «الكرامة» التي تسعى إلى تفويض المنقلبين عليها وعلى قيمها.

وكان لافتاً أن تترافق مواكب ما بعد الحرب مع الترويج لها، مع ظهور فيديو لإبراهيم بقال، أحد رموز النظام السابق ووالي الخرطوم إبان سيطرة الدعم السريع، والذي عاد مؤخراً إلى مربع دعم ومناصرة الجيش. ذلك المشهد وحده كان كافياً لتوضيح رؤية الديسمبريين تجاه مواكب «التفويضين»؛ سواء أولئك المختبئين خلف بندقية الجيش، أو الجالسين تحت ظلال بندقية الدعم السريع. فالصورة، مهما أُتقن إخراجها، لا تمثل ديسمبر، بل تمثل ظلال المنقلبين عليها، الذين لم يجدوا سبيلاً لمواجهتها إلا باستخدام أدواتها ذاتها.

لن يطيب المقام لديسمبر في بورتسودان، حيث يغدو الدم أرخص من النفط، وتُختزل الكرامة في التشريد والقتل والدمار، ويُحتفى بالقاتل بوصفه بطلاً، ويُخوَّن من يطالب بإلقاء السلاح. كما لن تُرى ديسمبر في نيالا، حيث تُختزل الديمقراطية في خطاب القبيلة، وتُستبدل السياسة بالقتل والنهب والتشريد. فديسمبر، في جوهرها، لا تسكن ظلال البنادق، ولا تزدهر إلا في فضاء السلم والحرية والكرامة الإنسانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى