تهريب المخدرات.. الوجه غير المرئي لبنية السلطة المفككة

حيدر المكاشفي
في بلدنا المختنق بالحرب والانهيار الاقتصادي، كان يفترض أن تبقى المؤسسات النظامية آخر خطوط الدفاع. لكن الوقائع الأخيرة التي كشفتها الصحافية المتخصصة في تغطية اخبار الجريمة والحوادث هاجر سليمان في تقريرها المنشور تحت عنوان (اسرار وخفايا مافيا المخدرات بالسودان)، يتكشف أن هذا الخط لم يعد مستقيماً ولا صامداً، بل أصبح، بكل أسف، جزءاً من شبكة التهريب نفسها. وبحسب التقرير سجل عام 2025 أعلى معدلات ضبطيات المخدرات في تاريخ السودان. أربعة أطنان من الآيس كريستال، وملايين الحبوب المخدرة من الترامادول والكبتاجون والـ(لجة)، وأطنان من البنقو والشاشمندى. أرقام ليست مجرد إحصاءات، بل إنذار بأن البلاد تحوّلت إلى ساحة مفتوحة لمافيا دولية عابرة للحدود، تستغل كل ثغرة، وحتى الزي الرسمي..أحدث الضبطيات تسعة وعشرون جوالاً من البنقو لم تكن بحوزة تجار عشوائيين ولا عصابات متنكرة. كانت على متن عربتين تاتشر يقودهما ثمانية جنود من القوات المشتركة، تحديداً من (متحرك الشهيدة هنادي)، الأدهى أن الشحنة جاءت من مناطق سيطرة الدعم السريع في الردوم، أي أن الجنود كانوا يعملون كـناقل معتمد لبضاعة المليشيا، فكيف نفسّر وصولها بلا مساءلة عبر نقاط التفتيش الرسمية حتى شندي؟ التفسير الأقرب للواقع هو ان هناك علاقات مالية وشبكات مصالح تربط عناصر نظامية بالمليشيا وبالمافيا الإقليمية، وتسمح بمرور الشحنات مرور الكرام..واللافت أن حجم المضبوطات المعلن خاصة الآيس يفوق بكثير حاجة السوق المحلي. وهذا يقود إلى حقيقة أوضح من الشمس هي ان السودان أصبح محطة ترانزيت دولية لتهريب المخدرات إلى دول الجوار. فالموقع الجغرافي المفتوح، والفوضى الأمنية، وتعدد الولاءات العسكرية، كلها جعلت البلاد ممراً مثالياً للشبكات التي تبحث عن منفذ آمن، وعناصر قادرة على المرور عبر نقاط التفتيش دون تفتيش ولا مساءلة. ومن أفضل من (العسكري) لأداء هذه المهمة.. آخر الشحنات البحرية كانت أكثر فجاجة، قارب (سمبك) قادم من مناطق سيطرة الحوثيين يحمل نصف طن من الآيس، على متنه ثلاثة أجانب، متجهين إلى السودان ومنه إلى دول الجوار هذا يعني أن خطوط التهريب صارت برية وجوية وبحرية، وأن السودان بات جزءاً من شبكة ضخمة تمتد من اليمن إلى القرن الأفريقي ووسط إفريقيا والأجهزة الأمنية تعرف قاعدة ثابتة ان ما يتم ضبطه هو 10% فقط مما تم تهريبه فعلياً.. وإذا كانت المضبوطات هذا العام أربعة أطنان من الآيس وحده، فهذا يعني نظرياً أن 36 طناً أخرى نجحت في العبور إلى الأسواق. بمعنى آخر إن ما نراه مجرد قمّة جبل الجليد وتحت السطح عالم كامل لا يراه أحد. فماذا يعني كل هذا، انه يعني اختراق خطير للمؤسسات النظامية وان العناصر النظامية لم تعد مجرد متواطئة بل جزء فاعل من منظومة النقل والتوزيع..ويعني أيضاً وجود مافيا إقليمية تستخدم السودان كغرفة عمليات خلفية. وتحوّل البلاد إلى جسر تهريب دولي نحو الدول الاخرى. وانفجار سوق المخدرات محلياً نتيجة زيادة العرض وسهولة التوزيع. والخلاصة ان المعلومات المتاحة ليست مجرد ضبطيات. إنها إشارة واضحة إلى أن أخطر ما يهدد السودان اليوم ليس فقط الحرب، بل ايضا الفساد الذي ينهش جسد مؤسساته الأمنية، ويحوّل النظامي من حامي إلى مهرب. وإذا لم يفتح هذا الملف بشجاعة، وتطهر المؤسسات من الاختراقات، وتكسر الشبكات المتحالفة مع الحركات المسلحة والجهات الإقليمية، فإن البلاد ستتحوّل، رغماً عنها، إلى مركز عالمي لتجارة الموت.. ويكشف التقرير ان التهريب لم يعد نشاطاً خارج الدولة، بل أصبح جزءاً من بنيتها الفعلية. وانه ليس حدثاً معزولاً بل نتيجة هندسة سياسية كاملة أنتجت سلطة مفككة، متعددة الرؤوس، متداخلة المصالح، وغير قادرة على ممارسة وظيفة الدولة الأساسية المتمثلة في الاحتكار القانوني للعنف، والسيطرة على المعابر، وضبط الحدود. فسلطة الامر الواقع حاليا في بورتسودان تتكون من خليط غير منسجم، من مكونات أمنية متعددة الولاءات، حركات مسلحة دمجت بلا معايير، قوات مشتركة لا تخضع لقيادة موحّدة، إدارات مدنية ضعيفة، ومراكز نفوذ اقتصادية تبحث عن المال بأي وسيلة. في هذا المشهد، يصبح العسكري والحركة المسلحة والمليشيا والقوات المشتركة ليسوا مؤسسات، بل وحدات اقتصادية مسلحة تبحث عن مصادر دخل بديلة لتعويض ضعف التمويل الرسمي. وما هو المصدر الأسرع والأربح في بلد فوضوي، هو بلاشك التهريب، مخدرات، ذهب، سلاح، وقود.. أي شيء. فشحنة البنقو التي تم ضبطها بشندي والمحمّلة بواسطة جنود من القوات المشتركة قادمين من مناطق سيطرة الدعم السريع، ليست صدفة إنها انعكاس لتقاطع غير معلن بين عناصر داخل الأجهزة النظامية ومليشيا الدعم السريع، قائم على تبادل المنافع، وتوفير مسارات آمنة، والتغاضي المتبادل لرفع الأرباح. وبنية السلطة نفسها تنتج هذه العلاقات، لأنها سلطة غير موحدة، ومجزأة، وتفتقر إلى مركز قرار قادر على فرض الانضباط. فكل قوة نظامية أو مليشيا تمتلك حقاً غير معلن في فرض رسومها على الأرض. ففي غياب الميزانيات، وفي ظل اقتصاد منهار، أصبحت بعض المجموعات داخل المؤسسات النظامية تنظر إلى التهريب كوظيفة غير رسمية لكنها مبررة بحجة ضعف المرتبات وغياب الإمداد، وانشغال القيادة بالحرب والسياسة. وهكذا يتحول العسكري من حارس للحدود إلى جزء من سلسلة الإمداد للمافيا الإقليمية. وهذا السلوك ليس انحرافاً فردياً بل تحوّل بنيوي داخل السلطة نفسها وهذا التحول لم يحدث لأن المافيا قوية، بل لأن الدولة ضعيفة ومخترقة، ولأن بنية السلطة الحالية تسمح لكل قوة مسلحة بإدارة حدودها الخاصة وشبكاتها الخاصة. وحين تنهار الدولة، لا يختفي المجال العام، بل تملأه شبكات من مجموعات داخل الجيش، وحدات داخل الحركات المسلحة، عناصر موازية داخل الأجهزة الأمنية، تجار دوليون، ومهربون محليون. وكل هؤلاء يتحركون في ظل صمت كامل. فالسلطة مشغولة بالبقاء، لا بضبط حدودها. ومراكز النفوذ داخلها مستفيدة من اقتصاد التهريب، ولا مصلحة لها في تفكيكه. ما يحدث اليوم ليس انحرافاً أخلاقياً ولا فساداً فردياً، بل مظهر من مظاهر سلطة بلا مركز، ودولة بلا سيطرة، ومؤسسات بلا انضباط. ويبقى تهريب المخدرات كمرآة كشفت تآكل السيادة، وتفكك الأجهزة، واستبدال دور الدولة التقليدي بشبكات مصالح مسلحة. وما لم يعاد بناء سلطة موحّدة، بقرار سياسي جديد وهيكل أمني جديد، فإن السودان سيستمر كـمعبر مفتوح للمافيا الدولية وسيظل الفساد المنظم أقوى من أي محاولة للعلاج..وبالطبع لن يتم ذلك الا بايقاف الحرب..فهل تعقلون..





