استيلاء قوات الدعم السريع على حقل هجليج: قراءة اقتصادية–فنية لتداعياته على السودان وجنوب السودان

عمر سيد احمد

*عمر سيد احمد  احمد*

خبير مصرفي ومالي وتمويل متفرغ

يمثّل قطاع النفط أحد أهم المفاتيح لفهم التحولات الاقتصادية والسياسية في السودان منذ مطلع الألفية. فمنذ بدء الإنتاج التجاري عام 1999، أعادت العائدات النفطية تشكيل بنية الاقتصاد السوداني وهيكلة موارده العامة، بعد أن شكّلت في سنوات الذروة أكثر من 50% من إيرادات الحكومة وما يقرب من 90% من حصيلة الصادرات، الأمر الذي حول الاقتصاد السوداني إلى اقتصاد ريعي يعتمد على سلعة واحدة. وقد كشفت هذه البنية مدى هشاشة الاقتصاد أمام الصدمات الخارجية، ولا سيما تقلبات أسعار النفط والإنتاج. وعندما انفصل جنوب السودان عام 2011، خسر السودان ما يقارب 75% من احتياطيات النفط و80% من الإنتاج اليومي، وفق تقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، مما أدّى إلى واحدة من أسوأ الصدمات الاقتصادية في تاريخه الحديث، اتسع معها عجز الميزانية وتدهور سعر الصرف وتراجعت قدرة الدولة على تمويل الخدمات العامة.

ورغم هذا الفاقد الضخم، ظل للسودان دور محوري في سلسلة القيمة النفطية الإقليمية بعد الانفصال، بفضل خطوط الأنابيب الممتدة من جنوب السودان إلى بورتسودان. فقد شكلت رسوم العبور والمعالجة — التي راوحت بين 1.4 و1.8 مليون دولار يوميًا في الظروف المستقرة — أحد أهم مصادر النقد الأجنبي للخرطوم. وفي المقابل، يعتمد جنوب السودان على النفط اعتمادًا شبه كامل، إذ يشكل أكثر من 90% من إيرادات الدولة، ويُعد أي خلل في منظومة الإنتاج أو المعالجة أو النقل تهديدًا مباشرًا لاستمرار الدولة نفسها. وسط هذه الهشاشة الهيكلية، يبرز حقل هجليج بوصفه أحد أعمدة المنظومة النفطية في الدولتين، نظرًا لدوره المزدوج كحقل إنتاج وكعقدة محورية للتحكم والضغط ومعالجة الخام قبل ضخه في خطوط التصدير.

وفي ضوء هذا الموقع الاستراتيجي الحساس، يمثل استيلاء قوات الدعم السريع خلال الأيام الأخيرة على حقل هجليج تحولًا اقتصاديًا–استراتيجيًا غير مسبوق في الحرب السودانية. فهو ليس مجرد انتصار ميداني، بل حدث يعيد رسم ملامح سوق الطاقة الإقليمي، ويهدد أمن الطاقة في جنوب السودان، ويضرب أحد أكثر مصادر النقد الأجنبي استقرارًا بالنسبة للسودان، ويُعتبر منعطفًا قد يغيّر التوازنات العسكرية والسياسية في المدى القريب.

من الناحية الفنية، يُعد هجليج من أقل الحقول تكلفة للتشغيل في إفريقيا الشرقية، إذ تتراوح تكلفة التشغيل (OPEX) بين 8 و12 دولارًا للبرميل، فيما تجاوز رأس المال الاستثماري التراكمي (CAPEX) لتطوير الحقل 4.2 مليارات دولار منذ مطلع الألفية. ويمتلك هجليج بنية تحتية متقدمة تشمل مرافق المعالجة ومضخات الضغط ومحطات التعزيز ووحدات الفصل وإعادة المعالجة، إضافة إلى شبكة متطورة من الآبار وبرامج حقن المياه. وتعتمد المنشأة اعتمادًا مباشرًا على نظام الإشراف والتحكم وجمع البيانات (SCADA – Supervisory Control And Data Acquisition)، وهو النظام الذي يمثل “الجهاز العصبي” للحقل، إذ يمكّن المشغلين من مراقبة آلاف النقاط الفنية في الزمن الحقيقي، بما يشمل الضغط ودرجة الحرارة ومعدلات التدفق، والتحكم في تشغيل المضخات والصمامات وفق تسلسل هندسي دقيق، إضافة إلى اكتشاف أي خلل قبل وقوعه.

أما من منظور هندسة المكامن، فإن معدل التراجع الطبيعي في إنتاج هجليج يتراوح بين 6 و9% سنويًا، وهو معدل يمكن التحكم فيه عبر برامج إعادة الإكمال وحقن المياه، لكن الإطفاء الكامل للحقل — الذي حدث عقب استيلاء الدعم السريع — يرفع مخاطر الانخفاض غير القابل للعودة في الضغط المكمني إلى حدود قد تصل إلى 40%. ويعني ذلك احتمال فقدان القدرة الإنتاجية بمعدل يتراوح بين 3,000 و8,000 برميل يوميًا حتى بعد إعادة التشغيل. كما يؤدي توقف التدفق لفترة طويلة إلى تراكم الشمع داخل خطوط الأنابيب، وهي مشكلة تتطلب عمليات تنظيف معقدة ومرتفعة التكلفة قد تتجاوز 70 مليون دولار، إضافة إلى تعرض الخطوط لخطر التآكل وانخفاض الكفاءة التشغيلية على المدى الطويل.

وقد تم إخلاء الطواقم الفنية بالكامل وإطفاء أنظمة التشغيل بما فيها نظام الإشراف والتحكم وجمع البيانات (SCADA – Supervisory Control And Data Acquisition)، ما جعل الحقل خارج الخدمة بصورة كاملة. ويشكل هذا الوضع تحديًا ضخمًا لأي محاولة لإعادة التشغيل، إذ تتطلب العملية سلسلة خطوات هندسية معقدة تشمل إعادة توازن الضغط داخل المكمن بالتدرج، وتقييم الوضع الكيميائي للسوائل، وتشغيل المضخات والصمامات وفق تسلسل دقيق، وإعادة اختبار الأنظمة الكهربائية والميكانيكية، فضلًا عن الحاجة إلى بيانات آنية من نظام الإشراف والتحكم وجمع البيانات (SCADA – Supervisory Control And Data Acquisition) لا يمكن تعويضها بوسائل بديلة.

وفي هذا السياق، لا تمتلك قوات الدعم السريع القدرة الفنية أو المؤسسية لتشغيل الحقل بصورة مستقرة، وذلك لخمسة أسباب رئيسية:

أولًا، غياب الكوادر الفنية المدربة التي تمتلك خبرة تشغيلية متراكمة ضمن الشراكات الصينية–الماليزية منذ أوائل الألفية.  

ثانيًا، انقطاع سلاسل الإمداد الخاصة بالمواد الكيميائية وقطع الغيار، والتي تُعد ضرورية لاستمرار العمليات.  

ثالثًا، الاعتماد الكامل على نظام الإشراف والتحكم وجمع البيانات (SCADA – Supervisory Control And Data Acquisition)، الذي يتطلب قدرة تحليلية وهندسية متقدمة لا تتوفر خارج فرق التشغيل المحترفة.  

رابعًا، غياب الغطاء القانوني والسيادي لأي تشغيل خارج إطار دولة معترف بها، ما يجعل الشركات الأجنبية غير مستعدة لتقديم دعم أو إرسال مهندسين.  

خامسًا، خطورة إعادة التشغيل دون دراسة هندسية دقيقة، إذ قد يؤدي أي خطأ بسيط إلى انهيار الضغط أو دخول المياه إلى المكمن، ما يسبب أضرارًا دائمة.

وعلى المستوى الاقتصادي، تُعد الخسائر الناتجة عن توقف الحقل كارثية للبلدين. إذ يخسر جنوب السودان ما بين 2.2 و2.8 مليون دولار يوميًا نتيجة توقف صادراته النفطية، بينما يخسر السودان ما بين 400 و550 ألف دولار من رسوم العبور والمعالجة. ومعًا، تتراوح الخسائر اليومية بين 3 و3.4 ملايين دولار، أي ما يقارب 100 مليون دولار شهريًا وقد تصل إلى 900 مليون دولار سنويًا إذا طال أمد التعطل. ولا تشمل هذه التقديرات تكلفة إصلاح الأضرار الفنية أو إعادة تنظيف الخطوط من الشمع، وهي عمليات معقدة وباهظة الكلفة.

تفتح سيطرة الدعم السريع على هجليج الباب أمام أربعة سيناريوهات محتملة:

  1.   التصعيد العسكري، وهو سيناريو يحمل مخاطر تدمير البنية التحتية، وقد يؤدي إلى تعطيل طويل ومستويات غير مسبوقة من الخسائر 
  2.   ترتيبات تشغيل مؤقتة بضغط دولي، خاصة من الصين — المستثمر الأكبر — وجنوب السودان، لضمان استمرار تدفق النفط. .
  3. تعطّل طويل للحقل، وهو السيناريو الأسوأ، والذي قد يؤدي إلى انهيار جزء من القدرة الإنتاجية بشكل دائم.

الخلاصة  

تكشف سيطرة الدعم السريع على حقل هجليج هشاشة الدولة السودانية وقدرتها المحدودة على حماية البنى التحتية الحيوية، كما تكشف مدى الترابط بين أمن الطاقة الإقليمي ومسار الحرب الدائرة. فهجليج ليس مجرد منشأة نفطية؛ إنه شريان اقتصادي لسودانين يعانيان أصلًا من اختلالات بنيوية عميقة. وسيظل مستقبل الحقل — وبالتالي مستقبل جزء مهم من اقتصاد البلدين — مرهونًا بتوازنات سياسية وعسكرية تتجاوز بكثير حدود الجغرافيا النفطية.

 

المراجع  

– IMF. Sudan Country Reports (2010–2023).  

– World Bank. Sudan Economic Monitor (2020–2023).  

– AfDB. Sudan Country Brief (2012).  

– GNPOC. Heglig Field Operations Data (2017–2019).  

– CNPC. Technical Notes on Heglig Operations (2018).  

– Oil & Gas Journal. Sudan–South Sudan Field Profile (2019).  

– Brian Keperono, dawan.africa (2025).

 

Exit mobile version