
لواء شرطة (م) د. عصام الدين عباس احمد
كتب الكثيرون بمن فيهم خبراء عسكريين وامنيين واكاديميين عن القطاع الأمني والعسكري في السودان وتطرقوا لمعظم قضايا اصلاح وإعادة بناء هذا القطاع بصورة مثالية تحقق تطلعات الشعب السوداني في دولة المؤسسات. هذه السلسلة من الحلقات هي محاولة لاضافة حلقة في حلقات الجهود المتصلة في هذا الشأن من خلال طرح إطار تحويلي لإصلاح القطاع الأمني والعسكري في السودان مستلهما أسس وقواعد نظرية التغيير عبر اجراء مقاربات دقيقة بين الواقع الراهن وما ينبغي أن يكون عليه الحال في دولة مستقرة يسود فيها القانون، مع تحديد المسار العملي الذي يمكن أن يقود إلى التحول المطلوب. يبدأ التحليل بوصف أزمة تعدد الجيوش وتفكك منظومة السيطرة والقيادة وضعف الاحترافية، وانعدام الشفافية والمساءلة، وتراجع الثقة المجتمعية، إلى جانب غياب التنسيق المؤسسي بين الأجهزة العسكرية والأمنية والمدنية وتفشي وسيطرة اقتصاد الحرب. هذه العوامل مجتمعة شكّلت بيئة أمنية مضطربة هشّة، قلصت قدرة الدولة على احتكار العنف المشروع وحماية المواطنين.
في المقابل، ترسم سلسلة المقالات صورة مستقبلية لقطاع أمني موحد، محترف، شفاف ومسؤول خاضع للسلطة المدنية، يقوم على جيش واحد بعقيدة وطنية موحدة، وشرطة مدنية ذات صلاحيات واضحة في إنفاذ القانون، مع اندماج مؤسسي فعّال بين الأجهزة الأمنية والعسكرية دون تداخل في المهام أو تضارب في القرار. ويقوم هذا النموذج المنشود على ثقة عالية بين المجتمع والقطاع الأمني، وتماسك بين مؤسسات الدولة، وقدرة احترافية على منع النزاع وضبط الأمن دون انتهاكات أو عسكرة للحياة المدنية.
وللوصول إلى هذا التحول، ساناقش مسار تغيير مركب يُبنى على أربعة محركات رئيسية: الإصلاح المؤسسي، الحوكمة والمسؤولية، بناء القدرات والتأهيل المهني، وإنهاء تعدد الجيوش ودمج القوات غير النظامية عبر برنامج مدروس، إلى جانب تعزيز الثقة المجتمعية والمشاركة المدنية في صياغة السياسات الأمنية. كما تعرج الحلقات الى أهمية فصل المهام بين الجيش والشرطة بما يضمن مدنية جهاز الأمن الداخلي، مع تنسيق عملياتي موحد تحت سلطة مدنية شرعية.
واختتم سلسلة الحلقات بأن نجاح هذا المسار مرهون ببيئة سياسية وأمنية داعمة لتطبيق الإصلاح، وقدرة الأطراف على الالتزام بوقف العنف، وتوفر إرادة سياسية تُفضّل بناء الدولة الوطنية على استدامة مصالح السلاح. إن تحقيق هذا التحول ليس مهمة تقنية فحسب، بل مشروع وطني لإعادة بناء العقد الاجتماعي، وترميم الثقة بين الدولة والمجتمع، وتحويل أدوات القوة من مصدر تهديد إلى ضمانة للأمن والسلام المستدامين في السودان.
المقدمة والخلفية
ارتبط مفهوم “الأمن” لدى كثير من السودانيين بالدولة فقط، مع التركيز على حمايتها من التهديدات العسكرية. لكن مع التحولات الكبرى التي شهدتها الساحة السودانية وارتفاع مستوى الوعي المجتمعي مصحوبا باصطفاف نوعي حول الدولة المدنية، تحول الاهتمام تدريجيا نحو الامن المرتبط بالانسان ورفاهيته. كان لهذا التحول تأثير لدي القوى المدنية السودانية مما جعلها تولى قضية الامن اهتمام اكبر ونتيجة لذلك، أصبح مفهوم الأمن يشمل ليس فقط التهديدات العسكرية الكلاسيكية، بل أيضا الحاجة إلى حماية وتعزيز سبل العيش او ما يمكن تسميته ب”الأمن الإنساني”.
مفهوم الأمن الإنساني يتقاطع مع كثير من القضايا المرتبطة بالثورات السودانية المتتالية ويشمل حقوق الإنسان، والحكم الرشيد، والحق في إلى التعليم والرعاية الصحية، وغيرها. كلما تقدمنا خطوة في هذا الاتجاه كلما تراجعت محفزات الصراع في السودان وعلى راسها قضايا السلطة والهوية والتنمية الاقتصادية. بهذا المعنى تطور مفهوم الاصلاح الأمني والعسكري باتساق مع التحول نحو الأمن الإنساني المرتبط بشكل صريح مع التنمية، مع التأكيد على أهمية الأمن في إقامة السلام المستدام.
تشكّل القطاع الأمني والعسكري في السودان داخل بيئة شديدة التعقيد اتسمت بتداخل السلطة مع السلاح، وبتوارث التمرد والانقلابات كآلية لتغيير الحكم أكثر من التداول السلمي. قد يتساءل متسائل لماذا الإصرار على الإصلاح الأمني والعسكري في السودان؟ في تقديري، وبنظرة فاحصة ومتحررة من أي انتماءات، فان هذه القضية ذات أهمية قصوى ومصيرية، فهي تمثل حجر الزاوية لأي انتقال سياسي مستدام. فمنذ الاستقلال، ظل القطاع الأمني، بتركيبته المتعددة وولاءاته المتشابكة، يمثل التحدي الأكبر أمام بناء الدولة المدنية الديمقراطية وسبباً رئيسياً في إطالة أمد الصراعات وتكرار الانقلابات. وفي ظل الأزمة الراهنة والتفكك الهيكلي الذي تواجهه الدولة بسبب حرب ابريل وتداعياتها، لم يعد الإصلاح مجرد قضية سياسية تتبارى التنظيمات والكيانات في اثارتها، بل صار ضرورة ملحة لإنهاء حالة الفوضى الناتجة من ازدواجية الأجهزة الامنية وتعدد الجيوش، وتحويل القوات النظامية إلى مؤسسات وطنية موحدة، محترفة، وخاضعة بالكامل للسلطة المدنية الدستورية والمساءلة القانونية.
تاريخ سودان ما بعد الاستقلال يحكي عن سلاسل متصلة من الصراعات الأهلية الممتدة في الجنوب والشرق ودارفور وجبال النوبة، وقد أدّى غياب المشروع الوطني الجامع، وتسييس الجيش، واستخدام الأجهزة الأمنية كأداة للضبط السياسي بدلاً من الحماية العامة، إلى إعادة إنتاج العنف بدل احتوائه. كما أسهمت فترات الحكم العسكري المتعاقبة في ترسيخ ثقافة القوة على حساب سيادة القانون، وفي تكريس المحاصصة داخل المؤسسات النظامية، دون إصلاح جذري يضمن المهنية والولاء الوطني. ومع استيلاء الاسلاميين على السلطة في 1989، انفجرت التناقضات التاريخية المتراكمة، وتجلى ذلك بوضوح في انهيار منظومة الاحتكار الرسمي للقوة وظهور جيوش موازية وميليشيات ذات مصالح اقتصادية وسياسية مستقلة بلغت ذروتها باندلاع حرب ابريل 2023.
شهد موضوع الإصلاح الأمني والعسكري في السودان اهتمامًا متزايدًا من الأكاديميين والمراكز البحثية والفكرية، كما نُظّمت حوله برامج وورش عديدة تناولت تحديات القطاع وسبل تطويره. وانطلاقًا من هذا التراكم المعرفي، وبحكم ارتباطي المهني والمعرفي بالفضاء الأمني والعسكري، اسعى من خلال هذه الحلقات إلى تقديم إسهام عملي إضافي عبر طرح مسار واقعي للتغيير يقوم على منهجية انتقال واضحة، تهدف إلى نقل القطاع الأمني من وضعه الراهن المتشظي والمسيّس نحو نموذج مؤسسي مهني وموحّد، قادر على صون الاستقرار، وترسيخ السلام، وحماية حقوق المواطن ومصالحه.
السؤال المحوري: لماذا منهج التغيير المقترح
في ضوء التحديات الهيكلية والسياسية التي تواجه مسار الانتقال المدني في السودان، يفرض السؤال المحوري التالي نفسه: ما هو المسار الفعال القابل للتطبيق لتحويل القطاع الأمني والعسكري في السودان من كيان متشرذم ومسيّس إلى قطاع موحد، احترافي، وخاضع للمساءلة الديمقراطية؟” وعليه، فإن الهدف الرئيسي من هذه المقالات هو تصميم نموذج نظري شامل للإصلاح الأمني والعسكري وربط الإجراءات الإصلاحية (الأنشطة) بالتحولات الهيكلية بعيدة المدى (النتائج)، مع تحديد واضح للوضع الراهن الذي يجب معالجته والوضع المأمول الذي يطلبه الشعب السوداني، بالإضافة إلى فحص الافتراضات السياسية والأمنية الحرجة التي يجب أن تصمد لضمان نجاح هذا المسار الانتقالي.
ربط الفعل بالهدف: منهج للانتقال الواعي
يتجاوز التغيير الذي اتناوله في هذه المقالات مجرد تحديد الأهداف والأنشطة، ليؤسس بدلاً من ذلك سلسلة سببية واضحة ومترابطة تبدأ من الوضع الراهن وتمر بالتدخلات ومخرجاتها ونتائجها، وصولاً إلى الوضع المأمول والغاية النهائية. وتكمن قيمة هذا المنهج في أنه يجبر المصممين على الكشف عن الافتراضات الحرجة التي تكمن وراء هذه الروابط السببية. وبعبارة أخرى، لا تكتفي نظرية التغيير بالإجابة على سؤال “ماذا سنفعل؟” بل تجيب على سؤال “لماذا نعتقد أن ما سنفعله سيؤدي إلى النتيجة المرجوة؟” . هذا يساعد بشكل حاسم في سياق السودان، حيث لا يمكن تحقيق الإصلاح الأمني دون تفكيك البنى القديمة المتجذرة؛ وبالتالي، رسم خريطة طريق منطقية وشفافة لربط الإجراءات التكتيكية (كدمج القوات أو التشريع) بالأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى (كالحوكمة الديمقراطية والمساءلة).