
بقلم : إبراهيم هباني
كشف مسؤول أميركي أن واشنطن طرحت نصّ ترامب القوي لوقف الحرب في السودان، حسبما نقلت سكاي نيوز عربية. لم يكن ذلك توصيفًا إنشائيًا ولا رسالة حسن نية، بل إعلانًا صريحًا بأن الصبر الأميركي نفد، وأن الحرب السودانية خرجت من خانة النزاع القابل للإدارة إلى ملف يستدعي الحسم.
في قاموس إدارة دونالد ترامب، النص القوي ليس دعوة للنقاش، بل عصا سياسية وقانونية توضع على الطاولة. معادلة مباشرة بلا هوامش: وقف فوري لإطلاق النار، أو كلفة متصاعدة لن يكون من السهل احتواؤها دبلوماسيًا. هذه الرسالة لم تعد نظرية، بل صارت إطارًا يحكم كل التعاطي الدولي مع السودان.
غير أن التناقض الصارخ لم يأتِ من الخارج، بل من داخل التيار الإسلامي نفسه. ففي لحظة يُفترض فيها أن تُغلق أبواب التصعيد، خرج القيادي الإخواني أمير الدبابين الناجي عبد الله في فيديو متداول مهددًا باستهداف البيت الأبيض. لم يكن ذلك انفلاتًا لغويًا ولا حماسة عابرة، بل تهديدًا مباشرًا يرقى إلى مستوى الإرهاب السياسي العابر للحدود.
ولم يكن هذا التهديد معزولًا. فقد سبقه ضابط الأمن السابق والقيادي الإخواني عبد الهادي عبد الباسط بخطاب علني هدد فيه دول الإقليم، في تصعيد محسوب يتجاوز حدود السودان، ويكشف استعداد التيار الإسلامي لنقل الحرب من كونها أزمة داخلية مأزومة إلى مواجهة إقليمية مفتوحة كلما اقترب استحقاق وقف إطلاق النار والمساءلة.
ثم جاء الدور على زعيم قبائل البجا، وممثل المؤتمر الوطني في عهد عمر البشير، الناظر محمد الأمين ترك، الذي لوّح صراحة بفتح شواطئ البحر الأحمر أمام القوات الروسية لمهاجمة الولايات المتحدة. لم يكن ذلك مجرد مزايدة خطابية، بل تهديدًا فجًّا باستخدام الجغرافيا السودانية كورقة ابتزاز دولي، في سلوك يتناقض جذريًا مع مفهوم الدولة وسيادتها ومسؤولياتها.
هنا تتكامل الصورة. ثلاثة تهديدات بثلاثة أصوات، من المنبع الأيديولوجي ذاته. خطاب يهدد البيت الأبيض، وآخر يهدد دول الإقليم، وثالث يلوّح بتحويل البحر الأحمر إلى منصة صراع دولي. هذا ليس اختلافًا في الرأي ولا فوضى تعبير، بل مسار تصعيد منظم يستخدم الإرهاب السياسي وسيلة للهروب من استحقاق وقف الحرب.
في هذا السياق جاءت زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى الرياض، ولقاؤه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ثم لقاؤه خلال الزيارة نفسها مع مسعد بولس، مستشار ترامب لإفريقيا والشرق الأوسط. الرسالة التي نُقلت لم تكن غامضة: العالم يريد قرارًا لا إدارة للأزمة، ووقفًا للحرب لا تدويرًا لها. وأعلنت وزارة الخارجية السودانية استعداد البرهان للتعاون مع إدارة ترامب. لكن الاستعداد، في السياسة، لا يُقاس بالتصريحات، بل بالقدرة على ضبط الحلفاء قبل الخصوم.
السماح باستمرار هذا الخطاب التهديدي الإخواني لا يضع التنظيم وحده في مرمى المساءلة، بل يجرّ الدولة نفسها إلى قلب العاصفة. الصمت هنا ليس حيادًا، والتردد ليس توازنًا. هو قبول عملي بزجّ السودان في مسار تصنيفات وعقوبات وعزلة دولية جديدة، يدفع ثمنها الشعب لا مشعلو الحرب.
المزاج السوداني الغاضب يرى المشهد بلا تعقيد. الناس لا تهمها أسماء النصوص ولا تفاصيل المفاوضات، بل النتيجة. استمرار الحرب يعني مزيدًا من القتل والتشريد والانهيار. وأي خطاب يهدد الخارج لا يحمي الداخل، بل يضاعف كلفة المأساة.
نصّ ترامب القوي يضع حدًّا لهذه الرمادية القاتلة. قبوله يعني وقف النار، وفتح الممرات، والانتقال إلى مسار سياسي يعيد للدولة معناها. تجاهله، مع التسامح مع تهديدات إخوانية إرهابية عابرة للحدود، يعني اختيار الفوضى بوعي كامل.
في لحظات كهذه، لا يكتب التاريخ من حاول إرضاء الجميع، بل من حسم التناقض. والبرهان اليوم عند مفترق واضح: إما دولة تضبط خطابها وحلفاءها قبل أعدائها، أو فوضى يرفع فيها الإخوان صوت التهديد، بينما يدفع السودان الثمن كاملًا.