بروف.عبدالقادر سالم..  (شفق المدينة الرِّيفي)

بقلم: عارف حمدان

“أنا مسافر”

وكثيراً ما كان يُردِّدها إلى كلِّ معارفه ومحبِّيه، فنعلم أنَّه ذاهب إلى مهرجان عالمي أو منشط إقليمي رافعاً اسم السودان، وبين جوانحه يرفرف علمنا الحبيب. وقد كان دائماً ما يحرص على وضعه في مقدِّمة “بدلته” دليلاً على خلود السودان، رغم محنه في عميق وجدانه، وصوته الأخَّاذ ينبع من رمال كردفان الخير؛ فهو عصفور السلام الدائم.

ولكن؛

وآهٍ من لكن هذه، التي أخافنا منها “صلاح أحمد ابراهيم”، فقد سافر عبدالقادر سالم هذه المرة سفرته الأخيرة إلى خارج كوننا المعهود، إلى حيث الرقاد الأبدي وهو يطلَّ على بيت أبي العلاء المعري:(ضجعت الموت راحة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد)

رحل “البروف عبدالقادر سالم” كما يحلو لي أن أناديه كلما التقينا؛ خاصة في الإذاعة السودانية، والتي هي الأم الثانية لكل سوداني تمدَّد الوطنُ في وجدانه؛ فيقول

بتواضع الموسيقي الأسطوري: “يا أستاذ عارف.. أنا مجرَّد مطرب وبس”.

رحل الأستاذ الموسيقار البروف عبدالقادر سالم، رجل المبادرات والصلح والسلام وقضاء حوائج الفنانين والموسيقيين؛ كلما ألمَّت بواحد منهم غاشيات الزمن العصيب.

هو الوحيد الذي تولَّى إدارة اتحاد الفنانين أكثر من مرة، وحين رفض أعادوه منتخباً دون منافسة. فالرجل الذي ظل طوال ستين عاما معلِّماً ودارساً ومؤلِّفاً موسيقياً ورحَّالة فنِّ بين الأمم والشعوب، حاملاً مشعل الفن السوداني، آمن بأنَّ أجمل شيء في الوجود، هو هذا السودان وشعبه شديد التنوُّع، رائع التشكُّل؛ لذلك لم يغادره (والكائنات الغريبة المسمَّاة بالدعم السريع تتوعَّده) وحتى حينما اشتدَّ عليه المرض، نُقل إلى القاهرة، وما إن أحسَّ بتيار الصحة يسري في الجسد الضعيف، الذي أنهكته خدمة الآخرين؛ حتى حمل جراحه وعاد إلى أم درمان، رافضاً كلَّ الرجاءات؛ فقلبه نبض في “الدلنج” ضلع كردفان، لكنَّه توطَّن في “أم درمان”؛ حيث حي “بانت” مسكن الفؤاد ومثوى الروح وغرام الأحبَّة، وكأنه كان يشعر أن أهله في “حمد النيل” ينتظرونه.

أيها النبيل تسامياً وتواصلاً لكل الناس عليك سلام الله.

للأستاذ الدكتور عبدالقادر سالم إنتاجٌ ضخمٌ من الأغاني الحديثة والتراثية والمؤلفات وأوراق العمل والأبحاث العلمية في مجال تطوير الموسيقى؛ خاصة مؤلَّفاته

مثل “الغناء والموسيقى التقليدية في كردفان” وكتاب :الأنماط الغنائية ودور المؤثرات البيئية في تشكيلها”،

وهو يحمل درجة الدكتوراة في الموسيقى من جامعة السودان للعلوم والتكنلوجيا عن بحثه المهم جداً “الأنماط الغنائية للموسيقى الكردفانية”، وهو ابن فرقة “فنون كردفان” الشهيرة مع رفقائه “إبراهيم موسى أبَّا” و”صدِّيق عباس” و”جمعة جابر” و”عبدالرحمن عبدالله”، والتحق بالإذاعة منتصف الستينيات، وظلَّ معلِّماً حتى أصبح أستاذاً للموسيقى بجامعة الخرطوم حتى تاريخ وفاته.

عبدالقادر سالم و”مريم ماكيبا” و”تيدي آفرو” و”عثمان سمبين” فنانون أفارقة دخلوا قلوب كل العالم؛ حيث الموسيقى جواز المرور الحقيقي إلى القلوب فوق الحدود والجغرافيا والسياسة والأعراق والثقافات؛ فلا غرو أن رأت فيه اليونسكو السفير الحقيقي لتوطيد دعائم السلام المتحركة.

عبدالقادر سالم نموذج للإفريقي المنتج، إبداعاً وإمتاعا. شهدت له مسارح الدنيا بأصالة الإنتاج وتفرُّده وهو يُحيي لياليها على مدار عشرات السنين؛ منذ عام ١٩٧٩م إلى نهايات عام ٢٠٢٤م؛ حيث أقعده المرض، وما زالت مسارح “لندن”، “مانشستر”، “برشلونة”، “باريس”، “امستردام”، “وروتردام”، “اوسلو”، “استكهولم”، “بروكسل” ،”لوكسمبورغ، “جنيفا”، “روما” بمسارحها السبعة، وكوبنهاجن ومسارح الأولمب في “أثينا” و”هلسنكي”، وهو أول فنَّان عربي يُغنِّي في مسرحها الأوبرالي. أمَّا فيينا عاصمة “باخ” و”موتسارت” و”بتهوفن”، فقد كانت شبه موطن له؛ إذ زارها خمساً وعشرين مرة، وغنَّى وأحيا فيها سبعاً وثلاثين حفلةً ٩موسيقيةً كاملة، ومعه أحياناً “فرقة الفنون الشعبية”.

رحم الله أستاذنا الدكتور عبدالقادر سالم، فقد تمدَّد وملأ الدنيا فنَّاً. ففي “طوكيو”، فكَّروا في إنشاء تمثال له، إلَّا أنَّه رفض قائلاً: “أنا مسلم وأرفض التماثيل”. أمَّا في كوريا الجنوبية، فقد منحته جامعة سيول لقب “المبدع الإفريقي الخلَّاق”. وتشهد مسارح “ماليزيا” وكذلك “شنغهاي” و”نيودلهي” و”بكين” بحضوره الباهر.

أمَّا إفريقياً، فتلك قصة أكثر إدهاشاً وخلوداً، من “كيب تاون” إلى “جيبوتي” و”القاهرة” وفي تونس والجزائر و”الدار البيضاء” و”لاغوس” و”فري تاون” و”نيروبي” و”أديس أبابا” و”أسمرا”، حتى”أكرا” ومدن ليبيا كلها واليمن وبغداد وكل مدن الخليج.

أمَّا في تشاد، فعبد القادر سالم هو مؤسِّس مدارس الموسيقى وباعث نهضتها؛ حتى قال الرئيس (دِبِّي) : “إنَّ الفضل في نهضتنا الموسيقية، يعود للأستاذ عبدالقادر سالم”. وقد رُشِّح ليكون المغنِّي المشارك في حفل افتتاح كأس العالم في جنوب إفريقيا ٢٠١٠م، لكنَّ ظروفه الخاصة حالت دون ذلك.

أمَّا في الولايات المتحدة وكندا، فله حضور مختلف من “شيكاغو” إلى “سان فرانسسكو”، يحتاج منِّي إلى وقفة أخرى طويلة.

ظل أستاذنا عبدالقادر سالم حاضراً في المشهد الموسيقي العربي؛ خاصة في معاهد الفنون والموسيقى؛ ولمَ لا؟! فقد كان له الفضل في ترسيخ دعائم السلَّم السُّباعي للموسيقى العربية مع أستاذه “العاقب محمد حسن”؛ إذ قدَّم الفنون والموسيقى الكردفانية إلى العالم؛ خاصة إيقاع “المردوم” المسجَّل في معهد الموسيقى العالمي في “فيينا” كإيقاع إفريقي عربي خاص.

ونال أكثر من جائزة ووشاح في مهرجانات تونس والجزائر ومعهد ااموسيقى العربية في القاهرة، كرائد وباحث في السلَّم السباعي. وكان الباحث الموسيقي العالمي “الدكتور جمعة جابر”، قد وصف عبدالقادر سالم بالموسيقي الشامل. وكان هذا أيضاً رأي الباحثين الموسيقيِّين “ديفيدا راي” البريطاني و”موسى تراوري” السنغالي. وكتبت عنه مجلة “هنا لندن” التابعة للbbc أكثر من مقال، بل وخصَّصت عدداً كاملاً عنه، وهو ما لم يحدث مع أي فنان عربي؛ وخاصة بعد فوز أغنيته الشهيرة (جيناكِ) بجائزة أغنية العام في مسابقتها السنوية؛ وهي مكانة لم تصل إليها أي أغنية عربية.

الدكتور عبدالقادر سالم نال العديد من الجوائز والأوسمة والشهادات داخل وخارج السودان، مثل وسام الآداب والعلوم عام ١٩٧٦م وجائزة الدولة وجوائز في مهرجانات برشلونة للسلام ومهرجان الشرق بالسويد ومهرجان لندن وتونس والجزائر… إلخ.

ويسافر عبدالقادر سالم أحد أهم روافد ورواد الموسيقى ببلاد السودان الحبيبة. هو الموسيقي الذي مزج بين السلَّمينِ الخامس والسابع ليؤكد تنوُّع إنتاجنا الموسيقي وتفرُّد شخصيتنا الموسيقية وهضمها للإبداع الموسيقي العربي والإفريقي.

وقد تنوَّع إنتاجه الموسيقي بين التراث والحداثة وأغنية الريف والمدينة والوسط والغناء الوطني الفصيح، وظلَّ دائم الحضور في كل المناسبات القومية والجامعية والمهرجانات الداخلية والخارجية والعالمية خاصة؛ إذ ظل يُحيي أكثر من عشر حفلات سنوية في أوروبا وأمريكا وكندا وآسيا، بالإضافة إلى أفريقيا والدول العربية منذ عام ١٩٧٩م وحتى تاريخ وفاته. وظلت أغانيه مثل “بسَّامة” و”الدهباية” و”ليمون بارا” و”اللوري” و”كردفان” والأيقونة “جيناك”…إلخ، تُسمع في المسارح العالمية والمطاعم والطائرات والسيارات في دول العالم. وحافظ بقدرة فائقة علي علاقاته الحميمة مع كل ألوان الطيف السياسي والثقافي، ومع كل القبائل والأعراق والإثنيات، ولم يحدث أن هوجم من أي جهة كانت. وظلَّ محلَّ احترامِ وتبجيلِ وتوقيرِ في كل محفل ودولة ومدينة داخل وخارج السودان. وقد نال احترام الكل؛ خاصة زملاءه الفنانين حتى أصبحوا لا يرون في اتحادهم شيئاً إذا لم يكن عبدالقادر سالم ضمن أعضاء لجنته التنفيذية. وكان الفنان الأسطوري محمد الأمين يرى فيه فناناً ملهماً. كما أنَّ عبدالقادر سالم هو صاحب فكرة إدماج كل المكوِّنات الموسيقية في اتحاد واحد، وظل دائماً يدعم الفنانين الشباب ويمنحهم شهادة الممارسة الموسيقية، وحافظ علي قدر رفيع من الودِّ والهدوء في علاقة الاتحاد بأنظمة الحكم المختلفة؛ حتى وصفه الإمام الصادق المهدي (بالفنان الحكيم)، كما لعب دورا كبيرا في تطوير معهد الموسيقى والمسرح إدارياً وعلمياً. وإن كان جهده في مجال إنشاء أكاديميةٍ للفنون مستقلةٍ، أسوة بمعهد فيينا التاريخي، لم يثمر؛ إلا أنَّ هذا الجهد يُشكِّل رصيداً لموسيقيِّي المستقبل لمواصلة الجهد.

رحل الدكتور عبدالقادر سالم مخلِّفا إرثاً يصعب الإحاطة به؛ لكنَّه منح القادمين والعابرين بريق أمل.

تبكيك رمال كردفان، ويبكي الهشاب والضان والغبيش والبنو. يبكي عليك الشباب والشابات والطيور وصقر الجديات والدلنج وجبل الدائر والأبيض الحبيبة والمردوم وعجيلة وأم بادر والجراري والحسيس والسيرة والتُّوية وتوب الصعيد وبقيرتي وجقلة وضواحي النهود والإضيَّة صقع الجمل وشباب بابنوسة وليمون بارا والكمبلا وبنات النوبة والدوبيت ولحاية التبلدي وكل أم سعين وكل قرى ومدن السودان والخواجات والزنوج.

تبكي عليك لأنَّ حضورك كان يمنحها الأمل ويقتل فيها الخوف من بندقية الموت.

إلهي العظيم، هذا عبدك وحبيبك وحبيب المصطفى (ص) ومادحه، عبدالقادر سالم، قد جاءك يحمل كثيراً من الخطايا والدعاء والأمل والرجاء وحب الناس البسطاء ودعاءهم، فسعه برحمتك وأنت أرحم الراحمين وأنت عظيم الرجاء واسع المغفرة، تحب العفو فاعفو عنه واستره لأنك خيرٌ من أهله ومحبِّيه.

عارف حمدان 

الثلاثاء ١٦ .١٢. ٢٠٢٥

Exit mobile version