
إذا كان للفرح وجهٌ يطلّ من قلب الفقد، فقد هالني ما رأيتُ بعينيّ.
خرج جثمان ابني الشهيد غسّان من القبر سالمًا كما وُوري الثرى أول مرة؛ لم تنله دودة الأرض، ولم تمسّ جسده الطاهر عوامل التعرية ولا قسوة الطبيعة. حتى قطعة الملاية التي لُفّ بها بدت كأنها أُنزِلت لتوّها من حبل الغسيل.
كنا نتهيّأ — كما هي عادة الموت — لانبعاث رائحة الفناء، فإذا بالأجواء تفوح بعطرٍ ذكيّ؛ لا هو كافور ولا مسك، وإن كان مزيجًا مدهشًا بينهما. عندها انكسر الشك، واستقرّ اليقين في القلب، كما قال أحمد موسى.
انتظرتُ ثلاثة أيام كاملة، أقاوم الصدمة وأستجمع المعنى، قبل أن أعلن ما حدث على الملأ.
ما إن أُخرج جثمان الشهيد غسّان، وهو في كامل هيئته، حتى انقلب المشهد رأسًا على عقب. ارتفعت الأصوات بالتهليل والتكبير، وتحول بكاء النسوة إلى فرحٍ مبللٍ بالدموع، يمتزج فيه الدعاء بالدهشة.
وحين بدأ التكفين، وربطوا أصابع قدميه — الطرية — بقطعة قماش، وأُكملت مراسم الحنوط، بدا الجثمان كأنه لشخصٍ فارق الحياة للتو، لا كمن غاب شهورًا تحت التراب.
ما زالت الواقعة حديث المدينة، منذ أن تناقلها الحضور، الذين ما تزال الدهشة تعقد ألسنتهم كلما استعادوا تفاصيل اللحظة.
شكرًا لكل من شاركنا الحضور، ولكل من تواصل معنا هاتفًا، مواسيًا ومشدود القلب.
وأخصّ بالشكر الأستاذ عبد الرحيم حسب الرسول، المحامي، الذي قدّم محاضرة دينية عميقة عن هذه الظاهرة، مستندًا إلى الكتاب والسنة والمرجعيات المعتبرة. اغرورقت عيناه بالدموع، وتحشرج صوته، قبل أن يختم حديثه بسيلٍ من الأدعية المأثورة.
اللهم تقبّل شهداءنا في المتقين، واحشرهم مع النبيين والصديقين والصالحين.
اللهم ارفع شأن شهدائنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض عليك.
اللهم شفّع الشهداء فينا، وأنزل السكينة على قلوب الأمهات، وعلى قلوبنا.
أحمد الأمين
..
بداية الحكاية..
وكان الشاب غسان أحمد الأمين بخيت، قد استشهد ، إثر إصابته بطلق ناري في الرأس أُطلق عليه من الخلف في حي الشعبية بمدينة بحري في 29 يناير الماضي ، وذلك أثناء محاولته الاطمئنان على أفراد من أسرته مع استمرار الأوضاع الأمنية المتوترة في المنطقة في تلك الأيام .
وبحسب إفادات أسرته، فإن غسان كان قد بقي في منزل العائلة بديوم بحري طوال أشهر الحرب، مرافقًا لوالدته المريضة بالقلب وشقيقاته، في وقت كان فيه والده المصور والصحافي المعروف أحمد الأمين يتلقى العلاج في القاهرة. وخلال تلك الفترة، اعتاد غسان التنقل بدراجته الهوائية بين ديوم بحري وحي الشعبية لتفقد خالته وخاله المسنين، في ظل انقطاع الاتصالات وصعوبة الحركة.
وفي يوم الحادثة، خرج غسان من منزله متجهًا إلى حي الشعبية بعد سماعه بوصول الجيش إلى المنطقة، وأبلغ والدته بأنه ذاهب للاطمئنان على أقاربه، إلا أنه لم يعد. ومع حلول المساء، شرعت والدته في البحث عنه، ووصلت إلى أحد الارتكازات العسكرية، حيث أُعيدت إلى المنزل دون الحصول على معلومات عن مصيره.
وفي صباح اليوم التالي، تلقت الأسرة نبأ مقتل غسان برصاصة في الرأس قرب بقالة “الأسد” بحي الشعبية. وأفادت والدته لاحقًا بأن عناصر الارتكاز ذاته أقروا بإطلاق النار عليه، مبررين ذلك بالاشتباه في هويته، قبل أن يعبروا عن أسفهم للحادثة.
وكان غسان معروفًا بين سكان بحري بسيرته الحسنة، وهدوئه، ومشاركته الدائمة في الأنشطة الاجتماعية والرياضية، وارتباطه بنادي الاتحاد البحراوي، حيث شكّل حضوره جزءًا من الحياة اليومية في الحي.